الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: حب في الجامعة

بعد تجربة الحب الأولى عشت تقريبا عامين ونصف فى عزلة إجبارية أفرضها حول نفسى، خوفا من إحياء الأوجاع التى خرجت بها منهكا.
كنت مقبلا على العلم كارها للحب وأوجاعه، وأخشى أن تتجدد الآلام من جديد.
كنت افرض حول قلبى سياجا من حديد، حتى لا يتعب ويتعبنى معه.
كنت أقول لنفسى: الحمد لله أنني خرجت من تجربتي السابقة سليما معافى، وبدأت اتنفس الصعداء.
فجأة تسللت فاتنتى بلا مقدمات، وتسحبت دون أن اتنبه لتلك القيود التى فرضتها حول نفسى.
كانت زميلتى فى الدفعة، لكننى لم انتبه إليها إلا فى السنة الثالثة من كلية الآداب.
كانت فتاة ناعمة كالبسكوت، وكملمس الحرير اذا اقتربت منها، وكزجاجة يمكن ان تكسر إذا لم تحافظ عليها.
قدمتها لى إحدى زميلاتى من أرمنت كصديقة لها، ويا ليتها ما قدمتها!!.
بادلتها الترحيب وتحدثنا فى الدراسة ورجعت لسكنى.
لم أكن اتخيل ان احتفظ بصورتها التى تكونت فجأة داخلى، أطلت بعينيها لى فى خلوة الليل، وأنا استغفر الله أن أدخل من جديد فى أى تجربة.
ففضلا عن تجربتى السابقة كانت تجارب الإحباط من حولى لا تشجع أبدا على الاقتراب من هذه المنطقة.
فلا تجربة عادل تبشر بخير، ولا تجربة الزمقان وأحمد ركابى وأحمد حسين وجابر عبدالموجود وصلاح سليم تنبيء عن شيىء مما يحلمون به ولا غيرهم، وبالتالى لما الاقدام وقصص اصدقائي غير مكتملة؟
رأيتها فى اليوم التالى مع إحدى زميلاتها، فأسرعت الخطى حتى لا تتوثق علاقتنا مرة أخرى.
قلت فى نفسى طالما أننى جربت عينيها، وكيف تخترقان ليلى من أول تعارف، فقد أصبحت هذه الفتاة مكمن الخطر كله.
شعرت هى من جانبها أننى ابتعد عنها، وأحاول ألا تلتقى عيناى بعينيها أبدا، وأسرعت انا بالخطى باتجاه قاعة المحاضرات.
بعد اسبوع من التهرب تقابلنا فى المكتبة صدفة، وجاءت عندى وسألت عن كتاب، ورددت باقتضاب على قدر السؤال الذى سألت، وأحضرت لها الكتاب الذى تريد.
تركت مكانها الذى تقرأ فيه، وجلست بجوارى.
يا لهذه النيران التى تقترب منى؟
وكيف انجو منها؟
يبدو أنها استشعرت محاولات هروبى، فقالت: ممكن تساعدني فى هم المذاكرة الذى أنا فيه.
صدقت أنها تستنجد بى، ولم أدرك أن هذا كان جزءا من استراتيجيتها للايقاع بى.
عرفت أنها من إحدى أهم قرى نجع حمادى، وأن والدها أحد شيوخ هذه القرية، ومن أبرز رجالاتها.
بعد اسبوعين كاملين من اللقاءات المتعددة فى المكتبة، وقبل المحاضرات، استسلمت لعينيها، ويا ليتني ما استسلمت.
قاومت بكل ما أستطيع نظراتها واختراقاتها، علنى أجد مهربا، ولا مفر.
استشعرت هى أننى متخوف من الدخول فى الحب.
فذكرت مرة امامى أن مرور الشاب بتجربة لا يعنى إغلاق الباب على نفسه.
كانت كلماتها تهد حصونى واحدا بعد الآخر.
كنت احتاج الحب وأخاف من نتائجه، كان قلبى يتحرك باتجاه الحب، لكن عقلى يقيد هذه التحركات.
بالاقتراب من عالمها شعرت بأن الجدران التى اقمتها طيلة السنوات الثلاث الماضية قد بدأت تسقط الواحدة تلو الأخرى.
وعلى آخر السنة الثالثة كنت واقعا فى غرامها.
كنا نقول كل شيء دون أن ننطق، كانت نعومتها أصعب من أن تقاوم ، وكان صدق عواطفها أصعب من أن يكذب.
وكان سحر حديثها وعذوبة الفاظها ودفء مشاعرها يقتحمان قلبى، ويشيدان لها قصر جديد بداخله.
خرجنا عشرات المرات فى كل شوارع قنا، تبادلنا هدايا المحبين وكتاباتهم.
ذهبنا معا إلى كل الأماكن المتاحة وتقاربنا فى كل شيء.
لكن كيف أخبرها بطريقة أكثر عمقا بأنني أحبها كشيء لا يتبدل ولا ينتهى، ولا يختلط ولا ينقضي، ولا ينقص وإنما يزيد؟
كيف أخبرها بأنها وجدت الشخص المناسب لقلبها، وأنه الشخص الذي يحتاجها أكثر مما تحتاجه؟
كيف أخبرها أن همى كيف أكون بجانبها؟
لم انشغل كثيرا بالبحث عن إجابات لكل تلك الأسئلة، لكننى أوصلتها بأننى أخاف عليها كما لو كانت هى الشخص الوحيد المتبقي في حياتى.
اعترفت عيوننا وأفعالنا ومشاعرنا بالحب قبل أن نعترف به مباشرة لبعضنا البعض.
وبعد امتحانات السنة الثالثة بقينا يومين لوحدنا بعد رحيل الزملاء إلى قراهم ومدنهم.
كانت كل ساحات قنا وشوارعها توثق هذا الحب الناشيء وتثنى عليه.
كنت أشعر بأن الأشجار التى نمر عليها تضحك لنا، وأن المباني تبارك لنا وتهنيء.
يا للمدينة الساحرة كيف تحولت ما بين يوم وليلة إلى شاهد عيان على هذا الوليد الجديد ورابط له؟
عشنا أجمل يومين فى حياتنا، كنا كطفلين نحلق فى السماء، نتحدث بلا قيود، ونمرح بلا حدود.
كنت اتمنى لو نظل الصيف كله ونحن على هذه الحال.
كيف لقنا أن تتحول فى لحظة إلى جنات وحدائق، ونحن ننطلق بداخلها نفرح بحبنا ونتعاهد عليه؟
كنت أشعر أن المدينة سعيدة بنا لكنها لا تجيد التعبير.
كنت أشعر بأن المدينة تتحرك حينما نتحرك، ولا تنام إلا بعد أن ننام.
ودعتها لتعود لقريتها قبل أن ينكشف أمرها لو بقيت يوما ثالثا بعد الامتحانات.
كانت أسرتها تتصل بها، وهى تتعلل بانتظار انتهاء صديقتها من امتحاناتها.
رجعت لقريتى وأنا شخص آخر، لم تعد قريتى التى عانيت فيها آلام الحب سابقا كما هى.
رحلت حبيبتى إلى قريتها بجسدها، لكننى رجعت بها لقريتى.
كانت تسير معى فى كل الشوارع، وتحل معى فى كل الأماكن التى أحلل.
لقد عرف قلبى معنى السعادة من جديد.
وأقبلت الدنيا تفتح أبوابها من بعيد.
تحولت الرزيقات فجأة إلى معسكر صيفى ينتظر أن ينتهى مصطافه منه ليعود لحبيبته مع أول يوم دراسى.
عدنا إلى قنا وتلاقينا من أول يوم، واستمتعنا بالأسبوع الأول الذى لا يحضر فيه الطلاب غالبا.
عادت أحلامنا من جديد.
كنا نلتقي قبل المحاضرات وبعدها، وكنا نخصص يومين للخروج معا داخل المدينة.
شيدنا بيتنا الذى نريد بنائه بعد التخرج، وبالطريقة التي نريدها، هدمناه مرة أخرى وشيدنا بيتا آخر على شاطيء النيل.
كانت أحلامنا واقعية نستطيع أن نحققها، فلم تكن احباطاتنا من سوق العمل كشباب اليوم.
فقد كانت كل السبل مفتوحة أمامنا.
كنت أشعر بأن حبيبتى اصبحت بيتى الأول قبل أن ابنى اى بيت. كنت أشعر بأنها اضحت حديقتى التى أحلم بها، وأرضى التى سأزرع فيها ما استطيع، فتنبت الثمر والمحصول.
كنا نترك مبانى كلية الآداب ونختفى بين جدران ومعامل كلية العلوم فى الجهة المقابلة.
فلا أحد هناك يعرفنا، ولا نحاول أن نعرف أحد.
ذات يوم اكتشف أمرنا ابن خالى المعيد فى كلية العلوم ورئيس الجامعة الحالى د. يوسف غرباوى.
يبدو أنه رأنى أكثر من مرة دون أن انتبه له، فدعانى وأنا جالس معها ليحدثنى على جنب.
ناصحا إياى بأن احرص على مستقبلى، مذكرا بترتيبى الأول وإلا سأضيع فرصة التعيين كمعيد فى نهاية السنة.
نزلت كلماته كالسهم فشكرته ووعدته بأن انتبه لمستقبلى.
يبدو أنه تعمد أن يحدثنى وقد رأنى حتى لا أنكر الأمر.
فلو طلبنى لمكتبه لمكننى من المرواغة والتهرب.
كان ذكيا فى كل شيىء، ويستحق منى الشكر والتقدير لخوفه على مستقبلى.
بالفعل نظمت أمورى فى المذاكرة، ولم أتخل عن حبى الذى أوجده القدر ولم أسع إليه.
حافظت عليها ولم أقصر يوما فى واجباتي العلمية.
عشت أجمل سنة فى حياتى مع زوجة المستقبل كما قررنا، بأنه بمجرد أن تنتهى السنة وتظهر نتيجتها، أتقدم لخطبتها.
تنقلنا فى كل نواحي المدينة نرتشف الحب ونتذوق طعمه.
اتفقنا على أسماء الأولاد الذين سننجبهم، وعددهم واختلفنا واتفقنا حول العدد والمسميات.
كانت حبيبتى أنثى بكل معانيها، وكانت رقيقة بكل جوارحها.
كانت تقبل كل كلماتى وتضيف، إذا كانت عفيفة، لكنها تصدنى إذا “تشاقيت” وتغزلت بكلام صريح.
عشت معها أجمل أيام الشباب وجعلت من قنا مكانا للذكريات وموطنا للحب.
كنت أذاكر والله بكل قوتى، ولم تكن يوما سببا فى أى شيىء يتعلق بالامتحانات والاستعدادات لها.
غير أن النتيجة النهائية جاءت مخيبة للآمال وأطاحت بى وبزميلتى الرشيدية أبوالفضل من الترتيب عن قصد وتعمد.
فصّلوها على أربع لم يكن لهم ترتيب من قبل.
الأمر الذى جعلهم لا يقومون بتعيين أى فرد من دفعتنا كمعيد.
ربما شعورا بالذنب أو لنصائح فوقية بأن أمرهم مكشوف.
ولكونى أعرف أن حبيبتى لم تكن سببا فى شيىء، وأنها كانت تشجعنى على الاحتفاظ بترتيبى كأول الدفعة، لذا لم أنس حلم حياتى بالارتباط بها.
فبعد أربعة أشهر من الافتراق تقدمت لها رسميا.
وذهبت محملا بالآمال، لكنى عدت محملا بالفشل والإحباط.
دخلنا منزلهم الكبير، وقابلنا والدها وأخوها وبعض أقاربها، وبعد استفسارات أدركت أن الأمر لن يتم، وأن حلمى قد ضاع منى بالاستعجال.
سألني أخوها سؤالا مهما: هل انتهيت من الجيش؟
وأنا لم أقدم نفسى للتجنيد بعد.
هل أنت موظف حكومي؟
يا لخجلى منه.
هو يعرف ما بيننا لأنه سبق أن رآنى بالصدفة معها فى احدى زياراته لها.
وحينما رآنى متقدما للزواج أدرك ما كان غائبا عنه.
فذهب لمناطق أخرى بالحديث، حيث طرق الحديد صلبا، وأوصلنى لنتيجة كنت غير مؤهل لسماعها، رغم أنها نتيجة طبيعية ومتوقعة ولا حاجة للوقت لانتظارها.
نسيت مع عدم قدرتى على الابتعاد عن حبيبتى، أننى من الصعيد الجوانى، وأن الآباء لا يريدون لبناتهم إلا ازواجا لديهم الاستقلالية عن آبائهم، وقدرة على إقامة بيت.
كنت اتمنى لو بقيت سنتين قبل أن أتقدم للزواج، على الأقل أنتهى من الجيش وأتسلم عملا.
تكرار الفشل أصعب على النفس من أى شيىء آخر.
وتكرار الألم والوجع كوخز الإبر.
عشت فترة لا أريد أن أكلم أحدا ولا أرى احدا.
هل ضاعت منى حبيبتى؟
جاء الرد مع عمى، الذى كان موظفا مع أخيها فى مصنع الألومنيوم فى نجع حمادى، بأنه قد حصل ما كنت أتوقعه.
فلم يكن بأيديهم أن يقبلوا شابا سيتزوج على نفقة أبيه.
وأنه لم يعين بعد فى وظيفة، وأنه حينما ينتهى من ذلك، يمكنه أن يأتى إذا لم تكن الفتاة قد تزوجت.
فاجعتان فى أسابيع معدودة لا يتحملهما بشر.
نازلتان تقصفان القلب دفعة واحدة.
فتحولت مدينة قنا فى نظرى إلى مكان للاحباط واليأس والفشل.
فى لحظة اختفى كل شيىء، وأصبحت مدينة للأشباح لا يأويها إلا البوم والرخم.
يا لنهايتى الحزينة فى مدينتى المفضلة.
ويا للمصائب التى تحل تباعا.
إلى أين يجرفنى التيار؟
فلا معيدا فى الجامعة أصبحت؟
ولا بحبيبتى تزوجت؟
تمنيت أن أكون قشة لا تكترث بأين تحملها الأمواج.
تحول العالم فجأة إلى حبة حمص صغيرة.
نطقت نتائج الكلية وأسرة حبيبتى بأحكام غير خاضعة للطعن.
أصبحت كالأسماك الميتة التى يلفظها البحر إلى الشاطئ.
بعد عام ونصف من السعادة جبلت أذنى على سماع الأخبار السيئة أكثر من الأخبار الجيدة.
فقد كان انتظار المصائب والويلات، وبعدها التعاسة والعذابات هو المسار الذى وجب على أن اعيشه بعدها.
وقطرة من ماء الألم تعكس كل محيطات الحزن.
لم تكن هناك صعوبة فى أن نموت كمدا، ولكن الصعوبة كل الصعوبة هو أن نعيش أحياء مع هذا الحزن المطبق من كل جانب.
لم تكن هناك اى صعوبة فى حصولى على المركز الأول، ولا بالارتباط بحبيبتى، فلماذا تحولت احلامي الذهبية فجأة إلى شبه مستحيلة؟
لماذا تحولت قصة حبى إلى صفحة ممتعة وتعيسة فى ذات الكتاب؟
ألم يكن كل يوم نمضيه شوقا لبعضنا صفحة معمقة فى رواية الحب؟
اعتقد أنه لولا دخولى الجيش لحدثت لى مصائب لم أعد أطيق تحملها.
لقد كان الله لطيفا بى، ففى جملة المأسى يرسل لك أقراصا للتشافى ووصفات طبيعية للعلاج.
فقد دخلت الجيش، فكانت تدريباته تهد الأبدان وتساعد المحبطين أمثالى فى العلاج ومحاولة التماسك.
غير أن الآلام كانت أكبر من أن تقاوم، وكانت الأوجاع الجديدة أكثر من أن تحصى.
وجاءت وفاة عمى مأمون محمد حسين لتكمل مثلث الحزن الذى حاصرنى من كل الاتجاهات.
فكان عمى مأمون بمثابة أب ثان لى، وكان أبناؤه بمثابة المربين لى.
فسعاد وحسين كانوا بمثابة الأم والأب، وكان محمد ونفسية بمثابة الأخوة الاشقاء.
تربيت فى بيت عمى مثلى مثل محمد مأمون، وكان محمد ابن عمى شقيق وصديق وصاحب طول عمرنا حتى الآن.
عشت فى بيت عمى أكثر مما عشت فى اى بيت آخر من بيوت اقاربى.
لدرجة أن بيت عمى حسن الشهير بعزب كانوا يلوموننى على عدم الذهاب إليهم كبيت عمى مأمون.
وبالتالى جاءت وفاة عمى ووالدي الثانى لتراكم الحزن، نظرا لارتباطى به ولحنيته الشديدة وعصبيته ورجولته التى يتحاكى بها الجميع.
كنت ادعو الله أن يقف بجانبي وأن ينتشلنى مما أنا فيه.
كنت قريبا منه، وكان رحيما بى.