مساحة للاختلاف

الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: اللقطة الختامية فى مرحلة البداية

أعتقد أن كل إنسان هو وليد بيئته وابنا لتجربته، وقبل كل شيئ وآخره، هو توفيق الله وقدره الذى كتبه له.

لقد عشت فى بيئة ثرية بانماط شتى من البشر، ومن الذهنيات والثقافات والعلاقات التى وفرت لى قدرة على استشكاف ما وراء تلك الاختلافات، والتعرف على مزاياها.

وأعتقد أننى لم أكن غبيا لأرى في نفسى ما لا يراه اﻵخرون فى، أو أننى حلمت بأن أصل إلى القمر وكل إمكاناتى هى لمس سقف منزلى.

بل بالعكس كنت استكشف إمكانياتى وأوظفها قدر الإمكان، وفى أحيان كثيرة كنت أشعر بأنني لم أحسن توظيفها حق التوظيف.

ولم يختلط على الواقع بالأكاذيب، فكنت تواقا للحقيقة دوما، وهو ما خلق حاسة المؤرخ وطورها قبل احتراف المهنة.

وفى نفس السياق، كانت مجتمعاتنا المتماسكة من ناحية الترابط والتآلف والتعاضد والتكافل، قد أضافت لشخصيتى الكثير والكثير.

وهيأت لى سماحة وبشاشة فى التعامل، وقدرة على التحمل والصبر على الناس لدرجة يتعجبها البعض.

تعرفت فى تلك البيئة على خلفياتها السياسية، وكيف كان للقبيلة رونقها ودور كبير ومؤثر فيها.

تعرفت على علاقة تلك البيئة باليسار واليمن والوسط.

واحتككت بتلك الأفكار وتماهيت معها، محاولا فهمها، وفهم طبيعتها على الأرض.

علمتنى التاريخ قبل ان أدرسه، شكلتنى كمثقف قبل أن أتشكل.

تعلمت هويتى وهوية منطقتى وعلاقتها بالوطن الكبير.

أدركت علاقة السياق الخاص بالعام.

وتشكل انتمائى الوطنى فى فترة مبكرة، وذلك لعلاقة الفترة التى ولدت فيها، سنة 1968 وما بعدها.

فقد ولدت فى أعقاب الهزيمة ولم أشعر بها، وعشت فترة النصر وصعود بلادى لقمة المجد.

كنت متشوقا لمعرفة أعماقي وعمق بلادى.

نمى حب الوطن فى داخلى على مهل، وتعمق الانتماء لترابه وشعبه على نار هادئة.

وبالتالى لم أكن بحاجة لدراسة التاربخ لتقوية هذا الانتماء الذى بنمو فينا كمصريين بالسليقة، بقدر معرفة هذا التاربخ للحفاظ على مصالحه.

ولما كانت الأفكار هى جسر النجاة فى الحياة، وجسر خبرة فى مرحلة التعلم، فكان من الطبيعى أن استفيد من كل فكرة أمر بها.

فقد توفرت لى قدرة معينة على قراءة الوجوه، وعلى وزن البشر ووضعهم فى المكان الذى يستحقونه.

وأعتقد أن هذه الميزة ستساعدنى فى المستقبل على فرز هؤلاء الذين يمكننى الاعتماد عليهم، والاطمئنان على نفسى بين أيديهم، واختيارهم فى فترة صعودهم قبل اختيارهم لى فى زمن قوتهم.

حينما عدنا إلى قريتنا الأم، افتتح أبى كتابا لتحفيظ القرآن الكريم بعد أن كان يمارس هذا العمل على فترات متقطعة مع الشيخ ملك فى قرية الرياينة.

وهذا الكتاب يعد أول كتاب مشهر فى القرية، وافتتحه فى دبة الرشايدة بجوار الشيخ الشورى.

وشارك والدى فى تعليم المئات من أبناء القرية، ودخل بهم فى مسابقات كثيرة تفوقوا فيها، وخلق أجيالا كثيرة متوفقة.

منهم من يتربع مكانته فى التحفيظ، ناهيك عن تفوقهم العلمى والوظيفى.

ونظرا لمكانته الكبيرة كنت أظن فى نعومة أظفارى أن والدى الذى ينتهى من قراءة القراّن تلاوةً وحفظاً كل ثلاثة أيام، أنه الحافظ الوحيد لكتاب الله فى مصر.

لكن مع دخولى فترة الشباب وإزدياد معارفى وكثرة انتقالى بين المدن والمحافظات المصرية، تراجعت هذه النظرة عن أبى، وأدركت بأن مصر تعج بالاَلاف مثل أبى وأكثر، بل ويفوقونه ويبزونه.

عانيت من النكبات التى تربصت بى وتعلمت منها.

صبرت عليها دون يأس فى رحمة الله، فتحولت إلى نعم وهبات.

لم أكن من هؤلاء الأشخاص الذين يختبئون من أبسط المشاكل، أو يخشون من مواجهة الحقيقة ويهربون من الحياة.

والحمد لله أننى لم أكن يوما ضمن هؤلاء الناس الذين يأتون إلى العالم، وهم فى حالة نعاس.

فكنت عالما من الأسئلة التى تبحث عن إجابات، وكنت بوابة للاجابات التى تطرح أسئلة.

وأعتقد أن التجارب التى مررت بها، والتى حبانى الله بها، كانت مهمة فى حياتى، وأضافت لى خبرات كنت فى حاجة لها.

وكما يصعب على الإنسان أن يتعرف على نفسه، كان من الصعب أن أضع نفسى فى بيئة لأتعلم منها.

فكان توفيقا من الله ما خطه لى من طريق أتدرب فيه وأتعلم.

وكما يقولون بأنه إذا لم يشتد الحر فلن تنمو عيدان القصب، فإننى أحمد الله على ما وفره لى من بيئة تعلمنى التاريخ حيا، قبل أن اتعلمه فى قاعة الدرس.

واعترف بكل خجل بأن هذا الطفل المدلل فى بدايته، كان فى حاجة إلى اختبارات جودة الحديد بتمريره على النار.

والحمد لله أننا وجدنا فى عالمنا أشخاصا عاشوا من أجلنا كى يمنحونا السعادة.

فكانت سعادة أبى وامى من سعادتي، فيالهم من عالم مملوء بالمثل والقيم والعطاء.

لم اكن سعيد الحظ فى اكتمال تجربتى الحب اللتين مرتا بى بالزواج، لكننى كنت الأسعد بحرارة الحب التى اشعلت قلبى وحركته.

فجعلتنى مهذبا وحالما ومهتما بكافة التفاصيل.

أعتقد أن الانسان الذى لم يجرب الحب ويكتوى به هو فظ وجلف وقاسى المشاعر.

فرغم مساحات الألم التى خلفتها التجربة إلا أنها ايقظت الشاعر الخفي الذى يسكن داخلى، وأطلقت له العنان كى يكتب ويعبر، ويصيغ ويرتب.

علمتنى التأليف قبل أن اشتغل به، علمتنى الجمع والتركيب قبل أن يكون عملى.

فيا للحب من آثار، ومن أوجاع وغبار.

والحمد لله أننى لم أر العالم بلون واحد، ولم اسمح للاعتياد أن يدخل فى حياتى أو أن يدهشها.

ولم اجعل حياتى تسير ببطء السلحفاة، ولم أفكر كثيرا فيما يخيفنى.

كنت جريئا حتى مع الجن الذى اخافونى بأنه يعترض الطريق.

سرت فى قلب البراري وحيدا، ونمت فى قلب الصحراء مغامرا.

كنت أشعر بأنه طالما فى القلب شعلة فأنا رجل، وانه إذا انطفأت فأنا مجرد قناع.

فلم اترك لمساحات الوجع أن تأخذها حظها فى داخلى، فقد كنت اهرب لقاعات الدرس كى لا تذبل أوراق الياسمين.

وأعتقد أن الحديد الذى دخل النار كان عصيا على الثنى فى محطات كثيرة مرت به.

وأن ما توفر لهذا الشاب من ثقافة ورغبة فى التعلم، وحماس للبحث، وجوع للمعرفة، قد جعلته مهيئا لمرحلة الاحتراف فيما بعد. خاصة وأن هذه المرحلة لها مواصفات أخرى واستعدادات معينة لولوج معتركها.

وتلك قصة أخرى تحتاج لفرصة قادمة لعرضها، وعرض ما فيها إنجاز وانتصارات، وما لحق بها من معارك وأشواك.

وأسأل الله عز وجل أن يهيأ لى من الأسباب والموضوعية فى عرضها كما جرت.

وأسأل الله أن يغفر لى أى ذلل أو خلل لحق فى عرض اللقطات السابقة حول البدايات الأولى فى حياة مؤرخ.

وبطبيعة الحال هناك شخصيات كثيرة اشتبكت معى فى مرحلة معينة، لكن يعذرنى أصحابها على ضعف ذاكرة الأسماء أو عدم تذكرها.

وكذا يعذرنى هؤلاء الذين وردت أسماؤهم ولم أُفصل فى الأحداث طويلا لطبيعة اللقطات المحكوم بها، وكذا لمحاذير التى تتعلق بالمكان الذى انتمى إليه وأعرافه.

فاللهم لك الحمد فى الأولى وفى الآخرى، ولك الستر فى الدنيا وفى الاخرة.

لقد خرجت بصداقات كثيرة ومتعددة وفى كل الاماكن التى عشت بها.

بعضهم جاء ذكره، وبعضهم غاب عنى اسمه دون رسمه.

ولما كان المرء هو بإخوانه، فالحمد لله أنه أمدنى بأخوة وأصدقاء كثر وفى كل الاماكن.

فلا خير فى الكف المقطوعة، ولا الساعد الأجزم.

وكم من أخ وصديق تمنيت ألا افترق عنه أبد الدهر لكن الأماكن والوظائف والأعمار فرقت بيننا.

بل إننى لم اخسر حتى ذوى الضغائن والأحقاد بالصبر على الأذى والمجاملة والضحك والابتسام، والقلب يخفى ما يخفى.

 

 

صور متنوعة في مسيرة حياة المؤرخ الدكتور أحمد عبد الدايم

 

 

 

اظهر المزيد

الدكتور أحمد عبد الدايم

أ.د. أحمد عبدالدايم محمد حسين.. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الدراسات الافريقية العليا جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

يسعدنا مشاركاتك

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »