شارع الثقافة

عراة في ظلام قصر .. قصة للروائي المهندس طارق عيد

أوشك الطبيب الثري المعروف أن يبلغ أسوار المجموعة السكنية الفاخرة التي يسكن بأحد قصورها، فضغط بقدمه على مكبح سيارته الفارهة رويداً رويداً حتى توقفت أمام البوابة العريضة، وبحركة تلقائية مد كف يده إلى منتصف مقوَد السيارة (الدركسيون) ضاغطاً بقوة لتطلق السيارة نفيراً متكرراً ينتظر انفراج ضلفتي البوابة، ولكن شيئاً لم يتغير وأحداً لم ينتبه وبقت البوابة موصدة في وجهه، فانزعج الطبيب وأعاد إطلاق نفير سيارته بقوة، ولكن لا أحد من أفراد الأمن يطل بوجهه ولا  شيء يتغير وبقت البوابة على حالها!

كانت تلك هي المرة الأولى التي يقود فيها الطبيب (عبدالقادر الزيني) إحدى سياراته منذ شهور، فقد اعتاد على الجلوس مستريحاً بالأريكة الخلفية للسيارة يراقب سائقه المأجور من خلف هاتف محمول اعتاد النظر إلى شاشته، فكان يراقب ذراعي السائق وكفيّه القابضيّن على المقوَد، حتى إذا ما أفلت أحد كفيه نبهه إلى ضرورة الانتباه والتحكم بكلا الذراعين حتى لا يفلت منه زمام الأمور، ولكن السائق لم يأت اليوم وتعثرت قدمه بحفرة من حفر الشوارع المنتشرة بالحي الشعبي القديم الذي يقطنه، واعتذر عن المجيئ لإلتواء قدمه ولشدة الآلام التي يشعر بها، فقد صار غير قادر على المشي أو القيادة ولابد له من راحة.

أمعن الطبيب النظر من خلف الزجاج الأمامي للسيارة فلم ير أحداً يقف خلف البوابة ولا يوجد أحد بالقرب منها، ففتح باب السيارة وخرج منها يتلفت يميناً ويساراً بضجر شديد حاملاً بين شفتيه قصائد من السُباب يكاد يلقيها تارة واحدة على رأس أول من يصيبه ببصره، ولكنه لم يعثر على أحد، فأخذ يضرب كفيه مستعجباً وهو يتسائل:

– أين هؤلاء  الأقذار؟!

وإذا بالطبيب يدفع البوابة براحة كفه فتزحزحت وانفتحت ببطئ، فاستمر في دفعها غير مصدق أن البوابة تنفتح بيسر وليس هناك من يوقفها أو يتحكم بها فلا حارس ولا رقيب ينظم دخول القادمين من الخارج، فعاد إلى سيارته ساخطاً ومستنكراً ما يحدث، وعبر بها الممر إلى داخل (الكمبوند)، ثم أمسك بهاتفه المحمول يتصل بمدير أمن المجموعة السكنية الفاخرة..

دقيقة مرت و(عبدالقادر) يستمع إلى أحد الأدعية (كول تون) التي خصصها مدير الأمن ليسمعها المتصل حتى يرد عليه، ومع كل اتصال يدعو عليه الطبيب أن يموت بقنبلة تبعثر جسده إلى أشلاء، ولكن في المرة الخامسة سمع صوت مدير الأمن يأتيه من وسط صخب شديد و يقول له:

  • دكتور عبدالقادر.. أعتذر لك بشدة .. هناك حريق هائل في قصر حازم باشا وكلنا هنا منهمكون في محاولات لإخماده ..

أغلق مدير الأمن المكالمة وانقطع الصخب، ولم يصدق (عبد القادر) أن المكالمة انتهت عند هذا الحد، فلم ينبس ببنت شفه، وظل شارداً للحظات قبل أن يُلقِي هاتفه المحمول على الكرسي بجواره ويمضى بسيارته نحو قصره..

وبينما يمضي (عبدالقادر) بسيارته بين الأشجار الوارفة لمحت عيناه من ألسنة اللهب والدخان تتصاعد أعلى قصر صديقه (حازم ناجي)، فتوقف قليلاً يتابع الموقف، ثم ابتسم قائلاً:

  • الحرام لا يدوم!

مضى ((عبدالقادر)) في طريقه بالسيارة حتى وصل إلى قصره، حينئذ أطلق نفير سيارته مجدداً، فلم يجبه أحد، ففتش بعينيه عن الحارس أو زوجته الخادمة، فلم ير أحداً منهما، فظن أنهما قد ذهبا إلى مكان الحريق وتركا أشغالهما بالقصر، فإشتاط غضباً وتوعدهما في نفسه بعقاب غليظ عندما يعودان، ثم صعد السلم يلعن ويسب حتى رأى زوجته (هويدا) تقف وحيدة في استقباله ترسم على وجهها إبتسامة فاترة، فسألها بشغف:

  • ماذا بك؟ وأين الحارس والخادمة؟

أجابته (هويدا) بصوت حزين:

  • لقد أصيب إبنهما في حادث على الطريق الدائري فهرعا إليه.. وللأسف نزف دماً كثيراً وقَضى نحبه قبل إجراء الإسعافات اللازمة له..

سكت (عبدالقادر) برهة ثم ربط على كتف (هويدا) قائلاً:

  • لا داعي للحزن.. هؤلاء الأشخاص ينجبون مثل الأرانب ويلقون أولادهم في الشوارع.. وهذه نتيجة طبيعية لجهلهم وسوء رعايتهم.. قبل نهاية العام ستسمعين نبأ ولادة الخادمة لتوأم ملتصق..

ثم مد يده إلى جيب سترته وأخرج حافظة نقوده وسحب منها بعض النقود وأعطاها إياها قائلاً:

  • أعطيهما هذا المبلغ وأبلغيهما أسفي لمصابهما.. وغدا سأرسل لكِ بديلين ليس لهما أي ولد يموت في حادث

وانصرف إلى غرفة الملابس يخلع نعليه ويستبدل ملابسه، فإذا به يشم رائحة الدخان وقد ملأت أجواء القصر، فعاد إلى زوجته من جديد وسألها:

  • هل علمتِ بأمر الحريق الذي اندلع في قصر حازم؟
  • منذ ساعة شممت رائحة الدخان، ثم سمعت أصوات نفير عربات الإطفاء ولكن لا أعلم ما الذي يحدث..

أطلق (عبدالقادر) ضحكة ساخرة، ثم قال:

  • لقد احترق قصره الملعون الذي جمع من أجله ملايين الجنيهات..

اندهشت (هويدا) لفرحته وسألته متعجبة:

  • أتفرح وتشمت في مصيبة صديقك؟!

أجاب (عبدالقادر):

  • ولم لا أشمت؟!.. قد أتى بأموال هذا القصر من عمليات مشبوهة وتجارة محرمة.. وهو يمارس في قصره كل الموبقات.. هذه هي العدالة الإلهية وهذه نتيجة طبيعية لفساده..

قالها وانطلق يشدو بالغناء في حالة من البهجة، بينما بقت (هويدا) وحيدة في الغرفة تفكر في حيرة وتذهب يميناً و يساراً تفتش عن سبيل تلقي فيه ما تخفيه عنه، وبعد عشر دقائق ذهبت نحو باب دورة المياه حيث يستحم زوجها ونادت عليه، فتوقف خرير المياه مع صوتها المُتهدهد وهي تقول:

  • حبيبي.. هناك خبر سيئ كنت لا أود أن أخبرك به..

أتى صدى صوت (عبدالقادر) من بين جنبات الحوائط (السيراميك) يقول:

  • أخبريني يا حبيبتي بالأخبار السيئة، فهو يوم سيئ منذ طلوع الشمس!

سكتت (هويدا) قليلاً قبل أن تأخذ القرار بإلقاء الخبر مرة واحدة كالقنبلة، فقالت بنبرة يملأها بعض من الحماس المُفتعل:

  • ليس هناك ما نأكله الليلة فقد أغلقت الشرطة مطعم المشويات الذي تحبه والذي تعودنا أن نأكل منه كل يوم.. لقد عثروا فيه على لحم حمير ولحوم كلاب ولحوم منتهية الصلاحية!

خيم الصمت لحظات قبل أن يتحرك المقبض وينفتح باب دورة المياه ليظهر من خلفه الزوج بجسده العاري وشعره الكثيف كحيوان بري يتقدم بحذر نحو فريسته، فتراجعت (هويدا) إلى الخلف ودب الخوف بأطرافها، وسرعان ما انقض عليها كالفهد وأمسك بذراعها قائلاً بحنق شديد:

  • أنا وأنتِ وأبناؤنا وأقاربنا وأصدقاؤنا وكل من دعوناهم للطعام في هذا البيت ومنهم المحافظ ووزير الصحة.. كلنا أكلنا ونأكل من هذا المطعم لسنوات طويلة.. كيف يحدث ما ذكرتيه؟!

أفلتت (هويدا) بذراعها وهرولت تبتعد عنه وهي تردد:

  • لا أعلم.. لا أعلم.. هذا ما حدث.. يمكنك تصفح الأخبار.

مكث الطبيب برهة يحدث نفسه غير مصدق حتى هدأت أوصاله، ثم هب واقفاً وتوجه حيث تجلس زوجته بحجرة النوم فربط على كتفها وداعبها قائلاً:

  • لا داعي للقلق.. لو كان هذا الأمر حقيقي لصرنا ننبح وننهق عند نوافذ القصر.. أعتقد أنها وشاية حقيرة الغرض منها الإنتقام وتلويث سمعة المطعم بعدما قدم لنقابتنا خصومات كبيرة.. هذه نتيجة طبيعية لإنتشار الغل والحقد في النفوس وتفشي ظاهرة أعداء النجاح في المجتمع.

أومأت الزوجة بالإيجاب في محاولة منها لتصديق ما يقوله ومحاولة أخرى لإقناعه بذلك، فأمسك بذراعها مرة أخرى يشدها لتنهض وتستبدل ملابسها ويخرجان في نزهة لتناول وجبة العشاء بأحد الفنادق ذات الخمس نجوم، فاستجابت له على الفور وعاد مرة أخرى ليستكمل استحمامه.

لم تمض خمس دقائق حتى عم الظلام فجأة أرجاء القصر، فصرخت (هويدا) ونادت على زوجها خائفة، فأتى إليها صوته من بين جنبات دورة المياه سائلاً:

  • ما الذي حدث؟ لماذا إنطفأت الأنوار؟!

أجابت (هويدا) بخوف:

  • لا أدري يا عبد القادر.. إني لا أرى شيئاً ولم أكن قد ارتديت ثوبي بعد

خرج (عبدالقادر) من دورة المياه يتخبط في الظلام الدامس ويتحسس بيده اليمنى كل صلب يقابله بينما يقبض بيده اليسرى على منشفة طويلة يستر بها عورته، حتى أبصر وميض هاتفه المحمول، فاتجه نحوه وضغط عليه لينير من أمامه بضوء شاشته حتى بلغ محل زوجته، فاحتضنها برفق قائلاً:

– لا داعي للخوف.. سأتصل بمسئول الكهرباء لأعرف كيف حدث هذا  وسأعيد إنارة القصر

انتظرا الزوجان عدة دقائق حتى رد المسئول على هاتفه المحمول، حينئذ احتدت نبرة صوت الطبيب وصاح قائلاً:

  • أنت شخص غير مسئول.. الظلام يعم القصر وكأننا نسكن في العشوائيات والعشش الصفيح
  • يا دكتور عبدالقادر.. نحن نعتذر لكم جميعاً ولكن النيران امتدت من قصر الدكتور حازم واقتربت من محول الكهرباء فتم فصل التيار لحين التغلب على الحريق..

قاطعه الطبيب صائحا:

  • أنتم فاشلون.. هذه هي نتيجة الإهمال.. أنتم فاشلون….. هذه نتيجة اللامبالاة….

أنهى (عبدالقادر) المكالمة في ضجر وعبس وجه بينما جمد الدم في عروق (هويدا) وارتعشت بين أحضان زوجها، وفجأة برقت عيناها وأشارت بسبابتها نحو شرفة القصر، فإلتفت (عبدالقادر) ينظر نحو الشرفة فإذا باللهيب وقد بان سناه والأشجار تحترق والأفنان تتساقط مشتعلة في حديقة القصر، وأصوات الحفيف والكصيص والفرقعات تعلو وكأن النار تنادي عليهما وتنذرهما وتتوعدهما إن لم يبتعدا، فصرخت (هويدا) في هلع، فاحتضنها الزوج بقوة يهدئ من روعها قائلاً:

  • سنهرب.. لابد لنا من الهرب الآن.. لقد اقترب الخطر منا…

فنظرت (هويدا) إلى بريق عينيه ومقلتيه اللتين عكستا وجه النيران وسألته بنبرة بائسة وبصوت متحشرج وجسدٍ يرتعد:

  • وكيف لنا أن نهرب؟!.. أما ترى أننا نكاد نكون عراة في ظلام قصر سيحترق؟

لم يأبه (عبدالقادر) لما قالته، وانطلق يجرها خلفه على أثر الضوء الخافت لهاتفه المحمول، فتخبطا واصطدما بجدران القصر والأعمدة والأثاث والتحف، وزلت الأقدام وانزلقت على درجات السلم حتى وصلا إلى ردهة القصر، وفي هذه اللحظة سطع شعاع نور قوي عند باب القصر أنار كل ما حوله…

كان شعاع النور يصدر من كشاف قوي حمله إبنهما الشاب (أحمد) الذي ترك بيته وهرع إلى القصر ليطمئن على والديه بعد أن علم بخبر الحريق، فاحتضنهما وخلع ملابسه ليستر بها جسد أمه ومشى بها حتى بلغا السيارة، فركب الثلاثة وانطلقوا مبتعدين حتى وصلوا إلى البوابة العريضة للمجموعة السكنية الفاخرة.

كانت البوابة العريضة مفتوحة على مصرعيها وكأنها تطردهم إلى شوارع المدينة، وانتشرت سيارات الإطفاء والإسعاف داخل أسوار المجموعة السكنية، وارتفعت ألسنة النيران ليبصرها كل من هم خارج الأسوار، واحتشدت الجموع لمشاهدة المشهد وكأنهم يتابعون فيلماً سينمائياً، فمن الناس من جلب معه بعض التسالي من اللب والفول السوداني وجلس يتابع بشغف الحرائق وهي تلتهم “أموال البشاوات” حسبما كانوا يقولون، بينما جلس الطبيب الثري المعروف داخل سيارة ابنه ناظراً بأسى من خلف زجاج السيارة صوب قصره البعيد لعله يبصر ماضياً جميلاً يبقى أو مستقبلاً لن يمسسه أذى، فطأطأ رأسه في حسرة يتأمل منشفة بالكاد تستر عورته، فتمتم بكلمات لم يسمعها أحد غيره وقال:

“كم كنت أنانياً.. ليتني لم أتغافل.. هذه نتيجة السكوت”

اظهر المزيد

المهندس طارق عيد

كاتب وروائي مصري .. مهندس ديكور و‏رئيس شعبة الديكور ومقرر لجنة ممارسة المهنة‏ ب‏نقابة الفنانين التشكيليين‏

مقالات ذات صلة

يسعدنا مشاركاتك

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »