مساحة للاختلاف

المهندس طارق عيد يكتب عن: العربي الفسيح

يقول د. مصطفى محمود (رحمه الله) في روايته (العنكبوت): “هذا الوَش الذي أسمعه حينما أحرك مؤشر الراديو، قد لا يكون وشا، قد يكون لغة أخرى لا أعرف شفرتها”..

ولعل الأيام قد أثبتت صحة هذه المقولة، فإذا ما مر الأب أو الجد بصخب عال لا يطيقه ولا يفهمه، فستجد بجواره الإبن أو الحفيد الصغير يردد كلمات بنفس الإيقاع وبابتهاج شديد، وربما يتشنج معها جسده ليدرك المستمع أن هذا (الوش) هو لغة لا يفهمها وتدعى (المهرجانات)!

وإن كان (وش) المهرجانات هو لغة عجيبة لا يعرفها البعض، فإن الأعجب هو أن تتحول اللغة الحقيقية حسنة الإيقاع إلى (وش)!

ولنتخيل سوياً شخص ما نسأله أيهما أفضل.. الطريق الأيمن أم الطريق الأيسر؟
فيرد الشخص: عفوا لا أفهم  كلمة الأيسر؟
– أقصد الجهة اليسرى.. اليد التي لا نأكل بها
– ما تقول ياعم شِمال.. انت هتاكل دماغي ليه؟!

هذا الحوار هو صورة افتراضية لحالي مع كثير من الأشخاص عندما أسألهم عن رأيهم في قصة أو مقال أو أي عمل أدبي، وليس شرطاً أن أكون أنا الكاتب، وللعجب فإن عادة الصدمة تأتيني من المتعلمين “بتوع المدارس”، ولا أقصد تعليم إبتدائي أو متوسط، بل تعليم جامعي.. “آه والله الجامعي” …

كنت أظن في البداية أنها مجرد طفرة أو حالة فردية لشخص ما حصل على الشهادة الجامعية وهو لا يحب القراءة، أو كان ربما “تعليم مجاني” مثلما يقولون، ثم بدأت أشك في لغتي العربية، فراجعت كثيراً مما أكتبه فوجدته عادي و بسيط ولا ينطوي على أسلوب أدبي أو فلسفي مقعر مثلما يفعل كثير من الكُتاب، فاحترت في الأمر .. “أين الخلل؟!”..

ذات يوم إعترفَت لي إحدى خريجات كلية الإعلام وكانت تنظم شعراً عامياً وقالت أنها لا تقرأ روايات أو شعر باللغة العربية الفصحى لأنها عادة لا تفهمه، وموظف آخر ذو خلفية عسكرية قال لي إنه يشتري فقط الكتب الكبيرة ذات الطباعة الأنيقة أو بعض كتب مشاهير الكُتاب ويضعها في مكتبة بيته لتقع عليها أعين الضيوف كلما زاروه!

أيضاً قد انتشرت في الآونة الأخيرة عادة (موضة) كتابة الرواية بالمصرية العامية، على غرار شعر العامية، وقد قرأت “مجاملة” عينة من تلك الروايات وكان مكتوب عليها “الطبعة الثانية”، فانضممت إلى المغفلين ممن اشتروا الطبعة الأولى، وللأسف أحسست بضيق من “حكاوي المصطبة” التي قرأتها، وشعرت في بعض الأحيان أنني أقرأ (سكريبت) برنامج تلفزيوني لـ(ريهام سعيد)، وللأسف ندمت كثيراً على مجاملتي لمن كتبته، لأن الموقف برمته كان أشبه بطعام مذاقه سيئ طبَخته لنا زوجة أحد الأصدقاء فوجب الثناء من أجل أن ينام الصديق هانئ في بيته.

مَن أعاب على التعليم المجاني لم ير التعليم (أبو فلوس) غير المجاني، ولم ير الأخطاء الإملائية الفادحة لخريجي المدارس ذات المصاريف المرتفعة، وخصوصا الأخطاء المتعلقة بحروف الـ(زين، ذال، ظاء) و(الهمزات) و(الدال والضاد) و(السين والصاد والثاء)، بل والأسوأ هم هؤلاء الأغلبية ممن أكملوا دراستهم بالجامعات الدولية، والساخرون من ألفاظ اللغة العربية الفصحى، والذين لا يخلوا حديثهم من ألفاظ وجمل أجنبية دخيلة لها الدلالة على الأموال التي أُنفقت في التعليم الدولي باهظ الثمن.

لا أود أن أكتب عن قوة و عظمة ومرونة اللغة العربية بقدر ما أود أن أكتب بها.. فهي معشوقتي وهي لي فسحة بين حصص اللغط اليومي، وقد فرحت وعلمت أين يكمن الداء عندما قرأت أن الشباب الأوروبي كانوا يأتون إلى الأندلس ليتلقوا العلم، وكانت لغة العلم آنذاك هي اللغة العربية، فكان الشاب الغربي إذا رجع إلى بلاده يفتخر أمام أقرانه ويخلط كلامه أحياناً بألفاظ عربية، ثم يعود ليتكلم بلغته الأصلية.

ومما لفت انتباهي في اللغة العربية هو الإيجاز في التراكيب والألفاظ التي يصعب التعبير عنها في اللغات الأخرى، فمثلاً نقول في العربية: (هيهات) ونقول في الإنجليزية it is too far، ونقول (شتان) بينما نقول في الإنجليزية there is a great difference، كذلك قدرة اللغة العربية على تمييز الأنواع المتباينة والأفراد المتفاوتة والأحوال المختلفة سواء في ذلك الأمور الحسية والمعنوية، فمثلاً إذا تحدثت عن المشيّ وجدت له أنواعاً.. درج، حبا، حجل، خطر، دلف، رسف، تبختر، تخلج، أهطع، هرول، تهادى، تأود…

وفي اليوم العالمي للغة العربية – 18 ديسمبر من كل عام– أتقدم للغة العربية بكل الإحترام والتقدير و الإعجاب، وأراها دائماً كالحسناء الجميلة الرشيقة الفاتنة التي يليق بها كل الثياب..
والتي لديها من التنوع في الخصائص الصوتية والاشتقاق والألفاظ والبناء والصيغة والوزن ما يجعلها فسيحة وقت التفكير، وفصيحة عند التعبير.

اظهر المزيد

المهندس طارق عيد

كاتب وروائي مصري .. مهندس ديكور و‏رئيس شعبة الديكور ومقرر لجنة ممارسة المهنة‏ ب‏نقابة الفنانين التشكيليين‏

مقالات ذات صلة

يسعدنا مشاركاتك

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »