مساحة للاختلاف

الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب عن: «سنوات الرصاص»

ولدت فى سنوات الرصاص، في أحد أرياف الصعيد، قرية الرزيقات قبلى، مركز أرمنت بمحافظة قنا، لعائلة المواضي نسبة للشريف ماضي أحمد عياش، وذلك فى السنة التالية للنكسة 1968.

فكانت مصر كلها تعيش فترة الاستعداد للمعركة وكان هذا ظاهرًا فى النقوش التى حملتها بقايا جدران مدينتى.

تلك السنوات الصعبة التى كان لها تأثير على أسرتى الخاصة.

فوالدى الحامل لكتاب الله كان قد اشتغل قبل النكسة مقاولًا صغيرًا على قدر حاله فى أعمال البناء، فكان يكسب فى الحدود التى تسمح له بأن يعيش عيشة محترمة.

لكن حين حدثت النكسة عاشت الأرياف أسوأ أيامها، وخسر أبى فى مقاولاته الصغيرة كل ما كان يملكه وأصبح مفلسا.

فقدم أوراقه بأنه يحمل كتاب الله وشهاداته التعليمية الأولى، فوظفوه فى وزارة الرى.

الأمر الذي جعلنا ننتقل معه بعد عدة سنوات من العمل إلى قرية مجاورة، الرياينة، ليستريح والدى من الذهاب والعودة يوميا. فأقمنا فى فيلات الرى الجميلة الكائنة بجوار ترعة اصفون.

بداية غير سعيدة

اعتقد أننى كطفل حينها لم أكن سعيدًا لأننى سأبتعد عن أقاربي وعائلتي الكبيرة النافذة إلى قرية أخرى لا أعرف فيها أحد.

فعشت فى بدايتى محرومًا فى منزل جميل وحياة هادئة لكنها حياة جافة خالية من أحلام الأطفال الغضة.

مما جعلني أخطط للهرب عدة مرات قبل أن يأتوا إلى بدراجة فتنتظم زيارتى لقريتى الأم كل أسبوع.

كنت فى مرحلة الهرب أعود لأقربائي فألعب وانطلق ثم أعود لبيتى بعد يوم أو يومين بصحبة أحد أخوالى تارة أو أحد أبناء عمومتى تارة اخرى.

بداية مؤرخ - الرئيس جمال عبد الناصر
الرئيس جمال عبد الناصر

وكان والدى ووالدتى يقدران هذا الأمر ولا يقومان بمعاقبتى تقديرا للضيف الذى اصطحبنى فى رحلة العودة إليهم.

هذه المرحلة لم تستمر إلا لفترة بسيطة فسرعان ما فتحت المدرسة أبوابها فاقمت صداقات عديدة وأصبح لى أخوة وأصدقاء هم عدتى وعتادى حتى الآن.

فكان هذا متغيرا جديدا فى مسيرتى الاجتماعية وبدلًا من الاعتماد على قوة القبيلة ونفوذها كان على أن اساير هذه النقلة النوعية فى حياتى.

صحيح أننا فى قرانا فى الصعيد نعرف بعضنا بعضا ولدينا علاقات نسب بكل القرى والنجوع لكننى كطفل كنت أشعر فى البداية بغربتى فى تلك القرية التى انتقلت إليها اسرتى.

وكان على أن احتاط واكون اصدقاء فى كل شارع وناحية.

وبسلوك الطفل الصغير شعرت بقوتى فى هذا المكان بفضل أخوتي الذين كونتهم وبفضل تفوقى العلمى.

فطيلة وجودى فى تلك القرية لم أكن أغادر المركز الأول أو الثانى مطلقا. فصارت قريتى الجديدة نقطة انطلاق وتعلم جغرافيا جديدة ودخول تاريخ أضافت لى الكثير فى مرحلة التكوين الأولى.

بداية تكويني السياسي

أما في التكوين السياسي فأدين بالفضل فيها لوالدي وبالظروف التى وضعت فيها، كوني انتقلت من مركز نفوذ العائلة إلى قرية أخرى ليس لى فيها أقارب فكانت السياسة بمفرداتها البسيطة هى وسيلتى الرئيسية فى تجنب المشاكل والقرب من الناس. لكن والدى كان هو معلمى الأول فى هذا الميدان بطريقة غير مباشرة.

فكان محبًا لنشرة الأخبار بطريقة غريبة.

وكان الراديو واذاعاته المختلفة هم عدته وحين يذهب إلى المدينة، أرمنت الوابورات، كان يأتى بالجريدة ما بين الأخبار والأهرام والجمهورية.

وكان أبى محبًا للرئيس السادات جدًا مثلما كان قبلها عاشقا لعبدالناصر، لكنني أتحدث عن الفترة التى وعيتها، فقد كان يجلس مستمعًا بإنصات شديد لخطابات السادات الطويلة التى أحيانا تظل لساعات.

بداية مؤرخ - الرئيس أنور السادات
الرئيس أنور السادات

وكنت أجلس بجواره لأرى سر انجذاب أبى لتلك الخطابات، ولا أعتقد فى البداية أننى كنت أعيها جيدا.

فكان الرجل بطيئا فى حديثه مسترسلا فى كلامه، لكننى أحببت مفرداته الجميلة ولغته الرصينة، لأنها كانت أحيانًا تأتى لنا فى مقررات اللغة العربية، فيطلبوا منا إعراب جملة أو تأتى فى أسئلة  أوائل الطلبة التى كنت أحد نجومها.

وحين جاء لنا أبي بالتليفزيون لأول مرة فى السبعينيات، كان لا يعجبه فى التليفزيون إلا نشرة الأخبار وخطابات السادات.

بعدها يتركنا لينتقل مباشرة إلى صديقه الصدوق الراديو، ليستمع إلى نشرات الأخبار والأغاني الشامية والقرآن الكريم وتعليقات الأنباء.

تساؤلات مؤرخ صغير

وكنت أتساءل ما الذى يعجب هذا الرجل فى تلك النشرات الجامدة؟

ولماذا يفرح بأخبار معينة؟

ويكتئب حين يسمع الأخرى؟

تلك الأسئلة الأولية كانت هى بوابتي للاحتكاك بالسياسة، كمحاولة للتعرف على المجال الذى يفرح والدى أحيانا، ويجعله يبتئس أحيانا أخرى.

فراقبته تارة فى فرحه، مستمعا لنشرة محلية، بعدها راقبت حزنه، حين سمع لإذاعة مونت كارلو.

وأدركت حينها مصادر الفرح والحزن فى مؤشرات الراديو.

هذا مؤشر مونت كارلو وهذا مؤشر صوت العرب والبقية ما بين هذا وذاك.

فكنت أخذ الراديو إلى حجرتى لاكتشف ما وراء تلك المؤشرات التى تزعج والدى وتفرحه.

فدخلت الميدان وأنا صغير جدًا، لكن الغريب أن مونت كارلو كانت تعجبني أكثر من غيرها لحماستها وطبيعة الأخبار التى تبثها.

وفى نفس الوقت هى تزعج والدى، فأخشى الحديث معه حول الاختلافات التى بيننا فيما يزعجه ولا يزعجنى.

ابن الدولة المصرية

أعتقد أن والدي هو ابن الدولة المصرية بامتياز، يفرح لفرحها وينزعج لانزعاجها.

يسمع لأخبار الدولة فيصدقها بمجرد إذاعتها لأول وهلة، ويسمع للأخبار المناقضة ويتشكك فيها ويرفضها.

ولما كنت استمع معه لهذا وذاك، وفى قرارة نفسى أتشكك عكس ما يتشكك، فنشأت مؤمنًا بالدولة ونظامها السياسى إرضاء لوالدي، وفى قرارة نفسى مؤمنًا بالدولة لكني كنت متشككًا فى نظامها السياسي لسماعي للأخبار المعارضة التى تبثها الإذاعات الأخرى.

لكن هل يمكنني أن أتناقش مع والدي، وأنا لم أعى ما وراء مضامين هذه الأخبار من تلك؟

بداية مؤرخ - الرئيس حسني مبارك
الرئيس حسني مبارك

أعتقد أن إيمان والدي بتجربة عبدالناصر والسادات جعلته يستمر فى هذا الإيمان ببلده فى فترة مبارك رغم وجود مصادر متعددة للأخبار وتعرفه على قنوات فضائية كثيرة.

اعتقد أن هذا الجيل قد آمن بكل ما تقوله الدولة لأنه نبت فى ظلها، وآمن بالقومية العربية، وآمن بأن دولته تعمل للمصلحة العامة ولا يمكنه مخالفة ما تقوله بل ويعتبره خيانة لها.

كنت أسمع السادات يتحدث عن هزيمة 1967 وانتصار أكتوبر 1973 وأتناقش مع والدي حول الهزيمة والنصر.

وكنت أسمع منه رواية الدولة الرسمية، كما ينبغى لها أن تقال، ويرفض ما يتردد من أنباء خلافها ويعتبره ترويجًا من الأعداء وكارهى مصر.

لكن بداخلي أسئلة أخرى قادتني بطريقة غير مباشرة للتعرف على طبيعة تلك الأخبار؟

ومن يقف وراءها؟

ومن هم هؤلاء الذين يتسببون فى إسعاد والدي وتعكير مزاجه؟

لكن صغر سني والمكان الذى أقيم فيه قد توطئا على حرماني من الوصول إلى إجابات لتلك الأسئلة التي كانت تدور في مخيلتي.

نصر أكتوبر المجيد

اظهر المزيد

الدكتور أحمد عبد الدايم

أ.د. أحمد عبدالدايم محمد حسين.. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الدراسات الافريقية العليا جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

يسعدنا مشاركاتك

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »