خارج الإطار

سوزان التميمي تكتب: حكاية مصرية وخصوصية فنية للفنانة «سماء يحيى»

أقامت الفنانة “سماء يحيى” معرضين بعنوان “حكاوى القهاوي” و”بلد المحبوب” بقاعات أتيليه القاهرة للأدباء والفنانين في الفترة من 6 إلى 18 ديسمبر 2020 كتجربة فنية متكاملة لتعرض من خلالهما تصورها الخاص عن جماليات التفاصيل المصرية الشعبية بشكل منفصل ومتصل..

لذا فقد أتاحت لها قاعات الأتيليه أن تتجاور الرؤى لإكمال التجربة الإبداعية مع الحفاظ على خصوصية كل منهما على حِدة هذا إلى جانب أجواء المكان مما استكملت به الجانب الشعوري الحميمي لفكرة المعرض ولكونه مكان اتصل بتاريخ وأحوال أزمان مضت كذلك وقوعه فى منطقة وسط البلد بمقاهيها التقليدية وبيوتها العتيقة والطابع المميز لأهلها كل ذلك أوجد حالة متكاملة من الأصالة.

فى (بلد المحبوب) صوّرت مصر فى حالة الاسترخاء بعد يوم عمل شاق وطويل النساء بكل الرقة والانتظار والهدوء، وفي (حكاوي القهاوي) الرجال بكل الصخب والزخم واللعب والدوشة المميزة في الشوارع والمقاهي المصرية، يربطهما عالم الفرح والكوشة الذي يجمع الرجال والنساء في الفرح الذي هو حلقة الوصل بين عالم النساء في بلد المحبوب ودنيا الرجال في حكاوي القهاوي.

إنها قصة يومية من داخل البيوت المصرية.. أشارت إلى ديمومتها بمنحوتة المركب التى تحمل البنات في قاعة “بلد المحبوب” فالمرأة هي التي تقود مركب الحياة من البداية للنهاية وتؤدي دورها بالكامل كي تصل بالأسرة إلى بر الأمان.

جسدت في “حكاوي القهاوي” صندوق الدنيا الذى اختزنت فيه حكايات من جلسوا على القهوة يتبادلون القصص من كل حدب وصوب.. ترى في داخله مشاهد لسوق وجنازات وأشخاص يغنون ويضحكون ويتكلمون.

إن مفردات المعرض الرئيسية بسيطة وحميمية قريبة للمشاهد فهي كلها قطع من أثر تاريخ ارتبط بحياة بشر كانوا هنا، عاشت معهم.. تنفست ذات الهواء وسمعت حكاياتهم التي حفظتها عنهم لتحكيها لأجيال وراء أجيال.

أدوات ذات هوية وشخصية ولعل هذا كان هو تحدي “سماء” في استخدام أدوات يومية مألوفة للمتلقي وله فيها خبرة بصرية وشعورية مثل ماكينة الخياطة والطاولة وأدوات القهوة وخيام الفرح وأقمشة الصوانات وأدوات الزراعة وحتى أكواب الشربات وغيرها في محاولة لخلق عمل فني محكم يحافظ على الجماليات الفنية ويدخل فيه المشاهد في دهاليز الذكريات البصرية الحقيقية المحببة.

تنوعت فى هذا المعرض التكاملي استخدام الفنانة للوسائط وبرزت قدرتها على خلق حالة من التجانس السلس بينهم جميعا برغم اختلافهم فنجد لوحات زيتية تجاورها منحوتات من البرونز والنحت الخزفي يتفاعل مع الأخشاب القديمة والأقمشة الشعبية المزركشة.

“حكاوي القهاوي” حالة من التجهيز في الفراغ بمجسمات نحتية استخدمت فيها تراكيب من الأدوات المصنعة والمواد سابقة التجهيز وهو يختلف في فلسفته ورؤيته عن استعمال المخلفات – على سبيل المثال – ويتماهى مع فكرة زوال الغرض النفعي من الأدوات وتحويلها لقيمة وشكل جمالي خالص فلكل آداة في تراكيبها شخصيتها الخاصة وروحها التي يبلورها العمل الفني. يتميز هذا النوع من النحت أنه يُفاجئ ويُدهش الفنان قبل المتلقي، فهو إعادة ترتيب لعناصر الحياة اليومية ولكن برؤية مغايرة وبذلك لا تستطيع أن تحدد الشكل الكلي للعمل الفنى قبل انتهائه كما أنكَ من خلال آليات تجميعه تكون قادراً على الإضافة أو الحذف منه في أي مرحلة حسب رؤيتك، هو لعبة وتحدي للنفس للحفاظ على القواعد وكسرها وحوار مع الأشكال والتكوينات فالمادة المستخدمة هنا لها خصوصيتها ولها حياتها وماضيها وذاكرتها قبل أن تصبح عمل فني، تتعامل مع كائن كان حيا وتحاول اعطاؤه بُعدا حياتيا مغايراً حتى في التصوير والرسم على الخيام. للحفاظ على التوازن البصري فى حالة النحت أو الرسم بخامات سابقة التصنيع لابد من توافر ثلاث عوامل:

أولها: مراعاة اختيار العنصر وهو فعل إبداعي في حد ذاته، لذلك فقد وضعت الفنانة على سبيل المثال صندوق مسح الأحذية كما هو في المقاهي لأنه حكّاء لمئات بل ربما لآلاف من حكايات من وضعوا أحذيتهم فوقه..

والعامل الثاني يكمن في استبعاد الغرض النفعي من الآداة ويحولها إلى قطعة فنية ذات قيمة جمالية وهنا تتحول بقايا الكراسي والتلفزيون القديم والرمالة الصدئة والأدوات المستهلكة لحالة فنية خالصة..

أما الضلع الثالث فهو السياق أو المنظومة الفكرية والفنية الجمالية التي تحوي كل تراكيب الجمادات والحالة والذاكريات.

حاولت الفنانة استفزاز رؤية وذائقة المتلقي ليرى أن الجمال موجود ولو في أبسط الأشياء، لتتخطى تلك الفجوة التي تفصل بين الفن التشكيلي والشخص العادي والذي قد يرى أن الفن التشكيلي ظاهرة فوقية يهتم بها الصفوة والمهتمين والذين ما ترتبط تخصصاتهم به ويترددون على صالات العروض الفنية.. لكننا في الواقع أبناء أقدم حضارة في العالم عبّرت عن نفسها بالفن قبل أن تعبر باللغة نحن من وضع أغلب قواعد النحت المعمول بها حتى اليوم ومازلنا نعبِّر عن أفراحنا وسعادتنا وتديننا بالرسم على الحوائط وصناعة عرائس الحلوى وإن كان هذا قد أوشك على الاندثار مع اختلال منظومات القيم، فحطمت “سماء يحيي” هذه الحواجز لتصل للناس كي يروا أنفسهم وما يحبونه وما يستعملونه كل يوم -على بساطته- وقد أصبح فناً وبهجة.. يرتقى بهم دون أن يتعالى عليهم.

لم تكن مسألة جمع الأدوات سهلة بل استغرقت منها  الكثير من الوقت وأحيانا السفر إلى مناطق ريفية بعيدة للبحث عن أدوات هزمتها التكنولوجيا والسلع الإستهلاكية البلاستيكية البرّاقة والتي امتلأت بها بيوتنا رغم أنها كانت أكثر بساطة وقربا للروح المصرية وليست درباً من النوستالجيا، لها طابع مميز قبل زحف العولمة.

لعل سبب وجود ماكينة الخياطة فى أكثر من عمل فني يُرجع الذكريات للملابس كانت تصنع يدويا فرغم تشابه القماش لكن كل قطعة كانت متفردة لأنها صنعت في قلب المنزل بعرق صاحبته وبدفء وحب واهتمام.

ونرى مشاية الأطفال والتي كانت تصنع في القرى ولا تأتي من الصين ولا الهند، – كستور الشيتى- وكرسى العفي – وماكينة نفرتيتى- قرقعة الطاولة وصوت الشيشة كلها أصوات وأشكال وأدوات تشتم فيها رائحة الهوية المصرية.

استهدفت الفنانة الجمهور العادي ورصدت تفاعله وانفعالاته واعتبرت أهم مكتسباتها من العرض تفاعله وشعوره بالحميمية مع عناصرها ودهشته وفرحته بلقاء حي بذاكرته، من المؤلم والمُفرح في ذات الوقت فضول المعرفة لدى الأطفال وصغار السن ودهشتهم من بعض العناصر والسؤال عن ماهيتها مثل التليفزيون ذو الصندوق الخشبي القديم أو التليفون القرص وحتى ماكينة الخياطة السينجر..

أعتقد أن الميديا والمد العولمي سرق منهم الكثير من البهجة وأفقدنا الكثير من هويتنا وخصوصيتنا ربما كان المعرض فرصة ليتعرف جمهور الصغار على أشياء ارتبطت بحياة أجدادهم وآبائهم.

“حكاوى القهاوى” و”بلد المحبوب” هما حكاية مصرية حلوة وخصوصية فنية.. نتمنى ألا تكون مجرد حنين لزمن فات بل إشارة خضراء للبحث في جماليات ذاكرة الأشياء وأن ننقلها لأجيالٍ بعدنا.

الفنانة “سماء يحيى” حاصلة على درجة الدكتوراه من كلية التربية الفنية وكتبت العديد من المقالات البحثية والنقدية كما شاركت في العديد من المعارض الجماعية بمصر والخارج وكان أول معارضها الشخصية في عام 2012 بعنوان “الرواي”، توالت بعده معارضها فكان “التجربة” 2013 و”ساعة مغربية” 2014 و”فرحة” 2016 و”هنا عرايس بتترص” 2017 و”دنيا” 2017 و”حلاوة زمان” 2018، حصلت على العديد من الجوائز وشاركت في مؤتمرات علمية وتم اقتناء أعمالها بالخارج.

 

سوزان التميمي تكتب حكاية مصرية وخصوصية فنية للفنانة «سماء يحيى»

اظهر المزيد

سوزان التميمي

فنانة وناقدة تشكيلية وناشرة مصرية - صاحبة ومديرة دار إيزيس للفنون والنشر - قامت بعمل العديد من المعارض التشكيلية الخاصة بمصر والخارج، وشاركت بأكثر من مائة معرض جماعي بجمهورية مصر العربية وخارجها. الدراسات: - بكاريوس كلية الفنون الجميلة، قسم جرافيك شعبة الرسوم المتحركة وفنون الكتاب. - دبلومة في النقد من أكاديمية الفنون بتقدير امتياز. - ماجستير في النقد التشكيلي.

يسعدنا مشاركاتك

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »