الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: الغناء الشعبي في قريتنا

والدتى أمية لا تقرأ ولا تكتب وبالتالى مفاتيحها سهلة وميسرة، أما أبى فحافظ لكتاب الله ويقرأ أحسن ممن يحملون الشهادات العليا، ويكتب خطًا أجمل من خطى، وبالتالى يحتاج إلى حرفية فى التعامل والاقناع.
أقول هذا الكلام ليس للمقارنة بينهما، فجزاهما الله عنى كل خير ومحبة، لكنى أقوله لأنى استفدت منهما الكثير، وتعلمت من المخطوطات التى كان يحتفظ أبى الكثير والكثير.
أذكرهما سويا، محبة لهما، وخشية أن أذكر أحدهما دون الآخر.
صحيح أن الولد والوالدة من عائلة واحدة، هى المواضى، لكنهما ينتميان لبيتين كبيرين، يعدان قرنين مهمين فى قرون العائلة الست.
فأولاد على، هم بطن أبى، والمناصير، هم بطن أمى، وكلا البيتين يعتز بنفسه وبفتوته أكثر من أى شئ آخر.
لذا فإنى احتاط دومًا بألا أبدى حبًا لأحدهما أكثر من الآخر.
ومع هذا كان أبى رحمه الله يتهمنى بأنني ابن أمى، وأنها تعاملنى بشكل مميز عن إخوتى.
علاقتي بأبي وأمي
قد يكون ذلك صحيحا الى حد ما، لأننى ابنها البكرى، بعد فقد ابنتها الكبرى نادية، رحمها الله، لكن الصحيح أيضا أن مواقفها وتعبيراتها وسحر حديثها لا يقاوم، وأن ما أريده من حديث فى مناطق معينة، من الصعب على أبى أن يخبرنى به.
والعكس صحيح، فهناك أحاديث لا تعلمها أمى يخبرنى بها أبى.
فاللهم بارك لى فى أمى، وأرحم ابى، واجعلهما نورًا يضيء لى الطريق بفضل دعواتهما.
وأذكر أننى كنت اعتذر من أبى فى كل عيد أم لأحيى أمى واهنئها.
وكنت أطلب من أمى أن تكثر لى من الدعاء، وأن تطلب من أبى أن يقرأ لنا ختمة من القرآن كل ثلاثة أيام، وأن يدعو لى بأن يكرمنى الله وأن يهيأ لى من أمرى رشدًا، وأن يجند لى جندًا من عنده يقفون بجانبى، مناصرين ومعضدين فى كل حياتى.
فجزاهما الله عنى وعن أخوتى كل الخير، فقد ربيتم وقدمتم.
لهذا أدعو المولى عز وجل أن يكرمهما دومًا، وأن يغفر لهما جميع الذنوب والآثام.
الغناء والتراث الشعبي
وفى الختام، لا أود ان استطرد فى تعديد ما حرمت منه فى مرحلة الطفولة، لكننى أختم بالقول بأننى قد حرمت مما يحبه كل الأطفال وهو أفراح القرية وغنائها الشعبى وممارسة اللهو واللعب خلال الموالد والافراح.
فحينما كان ينطلق مطربنا الشعبى، أبو داود، مغنيًا خلال أحد الافراح المقاطع الاَتية:
يا بت بيضة من حالك … ولا غسيل صابون
يا واد انا بيضة من حالى .. وابوى تاجر صابون
خشمك ما يدخل فولة … كلك تتاكلى
بينا فوق … أمك غيارة … بينا فوق
وعـ السرير ,اظبطلى الساعة على السرير
تستشعر بأن مقتطفاته الشعبية ما هى إلا تراكم لتجارب وخبرات غرضها تسلية الناس عن يوم طويل قضوه فى فلاحة الأرض ورعايتها.
ومن ينظر إلى الكلام السابق يجد أنه إباحي جدًا.
فالرجل فيه يخاطب زوجته لحظة المتعة بهذا الغزل الصريح جدا.
لكن المهم أن هذا الكلام كان يغنى فى مجتمع محافظ جدا، ولا توجد به حالة زنا واحدة، بل إن أكثر ما يمكن أن يقال فيه: أن فلانة تهوى فلان، وفلان يهوى فلانة.
المجتمع المحافظ وأغاني «أبو داود»
هذا المجتمع المحافظ الذى يسمع هذا الغناء الشعبي وتلك الكلمات الغزلية الصريحة ويقرها ويغنى لها، بالتأكيد هو مدرك لها، لكنه غير منتهك للأعراض بالمرة على أرض الواقع.
فهذا الزوج وزوجته وما بينهما، إنما هو حلال شرعا، وبالتالى صار غناؤه فى ليالى الأفراح مجازا، كونه يغنى للعريس فى ليلة زفافه.
وكأنه يعلمه كيفية التعامل مع الزوجة خلال تلك الممارسة الجسدية المقدم عليها، بحيث يلقنه كيفية التعامل مع غيرة الأم من زوجته، واختيار المكان المناسب بعيدا عن الأم، والذى لا يسمح باشتيداد نيران تلك الغيرة.
أعتقد أن الغناء الجماعى لهذا الكلام الفاضح هو الذى جعله مستساغا ومقبولا لدى أهالى القرية.
ولو كان يغنيه مطربا بمفرده ما سمحوا له بذلك، ولطردوه فى الحال.
فجماعة مطرب القرية الشعبى، أبو داود، تستحق التكريم والإشادة، فأبو داود قائدها، هو عبارة عن رجل يمسك بالدف ويقود صف من المرددين وراءه، وكل أدواتهم هي استخدام الكفين وترديد ما يقوله الرجل من مقاطع.
وأحيانا هم من يقودوه إلى مقطع جديد.
الغناء في قريتنا الجديدة
أما فى القرية التى انتقلنا إليها، فقد كان يسود نمط الغناء الفردى، مطرب معين يحيى ليلة.
وغير مسموح لى من الأسرة أن أشارك إلا فى بعض أيام المولد النبوى أن أحضرها وقبل المغرب فقط.
أما نحن فى قريتنا الأم، فالفردية غير موجودة بالمرة، فالصف والجماعة هو الأساس.
لذا فإننا نحتاج إلى مراجعة لما كان يقال ويغنى، ويحافظ على وحدتنا كقرية.
أعتقد أن غنائنا الشعبى هو الذى طبع روح قريتنا بالأخوة والمحبة بين كل العائلات.
فمجموعة أبو دواد على سبيل المثال، كان قوامها أفراد يحفظون الأشعار والمقاطع من كل العائلات.
وهى مجموعة غير مستفيدة من أحد، ولا تأخذ مالا من أحد، بل تحييى أفراح القرية من باب «المجدعة والمرجلة».
وهى مجموعة تسمح بالانضمام إليها من كل ابناء القرية فى كل ليلة من ليالى الفرح، والتى قد تطول لتصبح أسبوعا او تقصر ليومين، بما يعنى أن الصف المشارك فى احياء تلك الليالى قد يطول ويقصر حسب الرغبة وحسب اقبال الشباب على حفظ تلك الأناشيد.
استغل الكلام السابق وأقول لشباب قريتنا الرائع، والذى يقدم تجربة جديدة الاَن فى التضامن الاجتماعى تستحق الدعم والشد على أيديهم:
«ابنوا على عناصر القوة التى كانت قائمة وموجودة فى قريتنا الحبيبة طيلة تاريخها.
ولا تلتفتوا لمن يشدكم يمينا أو يسارا، ويحاول أن يفرق بينكم بالقبلية تارة وبالطموحات الشخصية تارة أخرى.
تحدثوا عن قبائلكم داخل قبائلكم، لكن حين تلتقون تحدثوا عن القرية ككل..
تحدثوا عن كيفية خدمتها، وخدمة أهلها وتعليمهم وتطويرهم ونهضتهم».