الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: نهر النيل وأبي وأنا

جاءت علاقتى بوزارة الري المصرية بحكم وظيفة أبى كبحارى بتفتيش رى أرمنت لتتيح لى فرصة كبيرة فيما بعد فى التعرف على نهر النيل ومنظومته داخل مصر وخارجها، وتتكون لدى ذاكرة تستطيع أن تربط بين الخاص والعام فى منظومة الرى المصرية .
حيث كان أبى يعمل فى وظيفة بحارى فنى على اكبر حاجز مقام على ترعة اصفون عند قرية الرياينة التابعة لمركز أرمنت التابع لمحافظة قنا حينها.
وكان هذا الحاجز عبارة عن ثلاثة بوابات كبرى مقامة على الترعة الرئيسية، وبوابتان أخرييان مقامتان على ترعتين فرعيتين، هما ترعة جنابية الرياينة وترعة الفتوحية.
وبحكم وظيفته تسلم أبى فيلا حولها حديقة وقطعة أرض تتجاوز الفدان.
ومن ثم كانت وظيفته توفر لنا حياة ناعمة وهادئة. فقد كانت الحديقة توفر لنا كل أنواع الفاكهة من عنب وموز وبلح وبرتقال.
وكانت قطعة الأرض توفر لنا كل ما نحتاجه من محاصيل غذائية، كبصل وثوم وخضروات وخلافه، مما يحتاجه المنزل ويفيض، وكان الحاجز وبواباته يوفران لنا كميات كبيرة من السمك.
ومن ثم كانت حياتنا فى هذه الفيلا مقارنة بالآخرين، رغدة وسعيدة وهانئة ومطمئنة.

حكاياتي مع نهر النيل
كنت أصحب أبى كثيرا فى عمله، بحكم أنه لا يبعد عن المنزل أكثر من 50 مترا.
كنت أراقبه وأساعده واستمع إلى مجريات ما يدور حول عمله.
فكنت أحيانًا أصحب أحد المساعدين لأبى لنرفع إحدى البوابات حينما يحل توقيت فتح إحدى الترع، ونغلق الأخرى حينما يحل توقيت الغلق.
وكنت أحيانًا اذهب لأبلغ مناسيب المياه في نهر النيل للتفتيش تليفونيا، بعد قراءة أبى لها وتسجيلها فى دفتر التسجيل صباحا ومساء.
وكان هذا التليفون فى أقصى ناحية القرية عند دوار العمدة.
وحينما يتعطل هذا التليفون كان أبى يطلب منى أحيانًا توصيل هذه المناسيب لمقر التفتيش بمدينة أرمنت، وهم بدورهم يقوموا بإبلاغها تليفونيا لوزارة الرى بالقاهرة.
فكنت اذهب بعجلة، وأحيانا بحمار، من ناحية طريق الصفصاف تارة، ومن ناحية الطريق الموازي للنيل تارة أخرى.
وأعتقد أننى تعملت حينها عدم الخوف من الطرق وأصبح قلبى ميتًا تجاه الشائعات المرتبطة بها، نتيجة انتشار أقوال بأن فلانا قتل فى تلك الناحية، وأن علانًا قتل فى الأخرى.
واذكر أننى كنت استمتع بتلك الطرق وأشجارها وعبيرها، وأحيانا بثمارها ومص بعض أعواد القصب طيلة الطريق وعبر مزارع القصب المنتشرة فى كل النواحى.
تساؤلات «المناسيب»!

كنت أحب القصص المنتشرة حول الطرق ورحلة الناس جيئة وذهابا عبرها، بل واقمت صداقات كثيرة مع شركاء الطريق.
وكان تعرفى على تلك المناسيب قد جعلنى أتساءل:
ما أهميتها لنقوم بتبليغها للتفتيش صباحا ومساء؟
ولماذا ترتبط اوامر التفتيش بها؟
ولماذا كانت فى قراءة معينة تحزن البعض وفى قراءة أخرى تسعد الآخرين؟
أعتقد أن ارتباطها بمنسوب نهر النيل هو الذى جعل تلك الترع مرتبطة به وبارتفاعه وانخفاضه، خاصة وأن ترعة اصفون تأتى من النيل مباشرة.
لكن كان أهم ما يعجبنى هو أننى أصبحت على صلة مباشرة بوزارة الرى المصرية.
فكانت القراءات التى أوصلها للتفتيش ترفع مباشرة للوزارة، وكان القائمين على عملية الإبلاغ للوزارة يقومون بهذه العملية أمامى.
المهم أن حاجز رى الرياينة هذا، قد وفر لأبى أخوة وأصدقاء من خلال العمل، فكان عم حراجى البرعى من أعيان عائلة النبابتة من الرياينة نفسها، وكذا شقيقه العربان، وعم ابراهيم الكلاسى من قرية المهيدات شرق النيل، وعم ابراهيم الدحلوب وعم ابوالهول، ومن بعدهم آخرين، كانوا جميعهم بمثابة آباء آخرين لى.
وبالإضافة إلى مجموعة الشباب العاملة معهم كان هؤلاء هم مصدر الخبرة والتعلم والرعاية.
تنظيم مياه نهر النيل
فقد كان العم إبراهيم الكلاسى يسكن فى فيلا مجاورة لنا وبالتالى كان ارتباطنا به وبأسرته كبيرًا، أما العمان ابراهيم الدحلوب وأبوالهول فقد كانا من البياضية التابعة للأقصر شرق النيل، وكانا يتناوبان العمل سويا، كل واحد منهما يقضى أسبوعا، فيأتي بعده الآخر.
وكان أكلهما فى الظهيرة والعشاء عندنا فى البيت، أما نومهما فكان بجوار الحاجز مباشرة.
حيث تتوفر حجرة مبنية بالطوب اللبن أعلى الحاجز مباشرة.
هذا بالإضافة إلى مصلاة صغيرة كان يجتمع فيها كل الأهالى القاطنين بجوار الحاجز ليؤمهم أبى فى الصلاة.
ولما كان تنظيم أعمال الرى يمثل العنصر الأساسى فى الإنتاج الزراعى فى القرية والقرى المجاورة، فقد كان أبى وزملاؤه فى العمل بمثابة العنصر الأول من هذه العناصر.
وما زلت أفخر بأن أبى كان أحد هؤلاء الذين يقومون بضبط أعمال الرى وتنظيم مياه نهر النيل القادمة عبر ترعة اصفون بالعدل والإنصاف بين المزارعين.
تلك الترعة التى أنشئت بعد تأسيس قناطر إسنا سنة 1908.
فحينما أنشئت تلك القناطر نشأت على إثرها ترعتى الكلابية شرق النيل، وترعة اصفون غرب النيل.
منظومة الرى المصرية وخصائصها
ولما كانت تلك الترعة قد ارتبطت بحياتى وحياة أبى، استفسرت منه مرة لا تعرف على تلك العلاقة، عن بداية مجراها ونهايتها، فأجابنى بأن بدايتها مدينة إسنا جنوبا، وأن هناك حاجز يمرر مياه النيل للترعة ويمنع مرورها عند السدة الشتوية.
أما نهايتها فذكر بأنها قرب نجع حمادى وقبل بداية ترعة نجع حمادى الغربية التى أقيمت قبل قناطر نجع حمادى التى أنشأها الملك فؤاد فيما بعد.
أعتقد أن هذه المعلومات والمشاركات قد أفادتنى كثيرا فى التعرف على طبيعة منظومة الرى المصرية وخصائصها، ومدى وعى المشتغلين بها بالمنطقة الإقليمية التى يعيشون فيها.
فكانت منظومة الرى خلال هذه الترعة وغيرها تعمل بنظام ثابت من بدايتها لنهايتها.
فحينما كانت المياه تنقطع أحيانا عن آخر الترعة، كانت أوامر التفتيش تأتى بغلق أفمام الترع الفرعية لتكمل المياه رحلتها إلى نهايتها ليسعد الجميع بتلك المنظومة وآليات تشغيلها.
أعتقد أن منظومة الرى قد خلقت فيّ التزاما كبيرا وقدرة عالية على تحمل المسؤلية.
وحينما كبرت وتعلمت شيئًا من التاريخ أدركت بأن التشدد فى أعمال تنظيم الرى غير نابع من هؤلاء الأشخاص المشتغلين فى تلك المنظومة فحسب، بل جاء من التزام الدولة منذ عهد محمد على بهذا الأمر أيضا.
خاصة وأنه فى إحدى مراسيمه سنة 1836 يشير بأنه كلف القائمين على أعمال الرى، من أمثال أبى، بأنه إذا سمع أى غدر فى توزيع المياه فإنه سيقوم بدفنهم أحياء فى الترع نفسها، وأن عليهم عدم الخروج عن حد الاعتدال فى منظومة الرى المصرية وتقسيم المياه وتوزيعها، وعدم التحيز لجهة دون أخرى.
تفتيش الري
وكنت أعتقد طبقا لتلك المراسيم وأوامر التفتيش، بأن أبى كان يلتزم بتطبيق الجدول الزمني الخاص بكل ترعة من الترع الفرعية طبقا لتوقيتاتها.
فهذا الجدول كان يأتى لهم من تفتيش الرى الموجود فى مدينة أرمنت.
حيث كانت كل ترعة تأخذ استحقاقها من المياه حسب حجم أطيانها.
وكنت أشعر بأن ابى كان ملتزما لحد الصرامة بنظام المناوبات فى تصريف المياه للترعة الأم الرئيسية والترع الفرعية، فى عدالة تامة فى توزيع المياه إلى كافة الاطيان الزراعية بالقسط والمساواة.
وقد رأيته ذات مرة يحتد على أحد المهندسين الفاسدين حينما أراد أن يبقى إحدى الترع مفتوحة لليلة واحدة، فرفض أبى هذا الطلب إلا بعد إعطائه إذنًا كتابيًا بذلك.
بعدها حدث ما حدث من نزاع بين الأهالى الذين تأخرت مناوبتهم، وكادوا يتعاركون سويا، بعدها ذهبوا إلى أبى لكى يعرفوا سبب التأخير، خاصة وأنهم اختبروا أبى سنينا طوالا ولم يروا فيه أية شائبة حول إمكانية التربح من هذه العملية.
فأطلعهم أبى على الأذن الكتابى الذى وقعه مهندس الرى، فذهب فريق منهم لهندسة أرمنت واحتدوا على المهندس نفسه، مما جعله يستنجد بالشرطة.
وهنا كانت فضيحة التربح التى التصقت بهذا الرجل، فنقل بعدها على الفور إلى مكان آخر.
ورغم أن هذا المهندس الفاسد لم يكن أول من يخترق الجداول الدورية لنظام المناوبات.
إلا أنه كان من السهل أن يتعرف الناس على الصالح من الطالح فى تلك المؤسسة بموجب هذا النظام.
ضبط المناوبات وارتباطه بمنسوب مياه نهر النيل
وكان أمر ضبط المناوبات مرتبطا بنهر النيل ودرجة هبوط المياه فى النيل نفسه.
فحسب مقياس المياه القائم على الحاجز الرئيسى على ترعة أصفون عند قرية الرياينة، كان يتم التشدد فى المناوبات طبقا للجداول الموضوعة مسبقا.
لكن المهم فى المسألة أن يعلن هذا الإبدال فى تغيير الجداول إلى المنتفعين منه قبل إحداث أى إبدال.
وهنا تبرز هذه العلاقة الوثيقة التى نشأت بين أبى وبقية زملائه وبين هؤلاء المزارعين، وكان مصدرها الرئيسى هو العدالة والشفافية والثقة والأمانة، فنشأت صداقات كثيرة بينهم وبين أبى.
حيث كان منزلنا المجاور للحاجز محط لعلاقات كثيرة مستفسرة أحيانا، ومستوضحا أحيانا، وغاضبا أحيانا، لكنها فى المجمل كانت علاقات تقدر مكانة الوالد وتثق فيه. حيث كان من الممكن أن يتربح أبى من هذه التغيرات والابدالات فى نظام المناوبات كثيرا.
لكنني اعتقد بأن الأوامر ولا التفتيش كان وراء مخافظة ابى على نزاهته، بل لكونه كان حافظًا لكتاب الله ومتقيدا بالأحاديث النبوية الشريفة لأقصى درجة.
وكنت اسمع من حواراته مع المزارعين الراغبين فى اختراق المناوبات كلامًا ممتدًا ورائعًا فى الدين والشرف والأمانة، بما يزيد من مكانة أبى فى قلوب هؤلاء الأفراد، ويعلى من شأنه فى نظرى.
وكان المزراعون أنفسهم يطمئنون بأن هذا الرجل غير قابل للرشوة أو التربح أو التكسب من عمله.
فقد كان أبى نزيها لأقصى درجة يمكن للمرء أن يتصورها، وكنت أعتقد أن علاقته اليومية بكتاب الله تزيده تحصينا ونزاهة على نزاهته.
ومع أن أبى لم يكن لديه أى كتاب حينها يقوم فيه بتحفيظ القرآن لكن صلته بالقرآن لم تنقطع بالليل ولا بالنهار أبدًا.
فقد كان رحمه يتغنى بكتاب الله ويحسن الترتيل والتجويد والحفظ دوما.
وكانت مخطوطاته من القرآن منتشرة فى كل أنحاء المنزل وتشهد له بهذه العلاقة الخاصة مع الكتاب الذى تربى عليه ونشأ فى حضنه.
الوطنية المصرية
وكانت محبته للقراءة والكتابة لا حدود لها، لدرجة أننى كنت اعتقد أن حرمان أبى من إكمال مسيرته الأزهرية، وانقطاعه عن استكمال دراسته فى معهد بلصفورة الأزهرى بسوهاج بموت والده، قد أثرت فى مسيرته فيما بعد.
فقد كان حريصا على تعليمنا، وكان مهتما بدرجاتنا وتفوقنا فى المدرسة إلى أقصى درجة.
وإجمالًا يمكن القول بأن علاقتى بمنظومة الرى هى التى جعلتني احرص على التعرف على طبيعة النهر الحاكم لهذه المنظومة والمؤسس لها.
وأفخر دومًا بأنني كنت أحد أبناء موظفى مدرسة الرى المصرية.
تلك المدرسة التى نشأت حولها وداخلها مفردات الوطنية المصريه، وساهمت فى خلق أبرز تجلياتها، تلك المتمثلة فى إقامة أكبر امبراطورية مصرية خارج حدود الاقليم المصرى، وصلت إلى بحيرة فيكتوريا والبرت جنوبا فى القرن ١٩.
وأحسب أننى استفدت كثيرًا من تلك النشأة، حيث تعلمت كيفية ارتباط الاهالى بكل متاسيب النهر وترتيب حياتهم عليها.
وتعرفت على منظومة الرى المصرية فى اصغر نقطة فيها، ومدى ارتباطها بحياة الفلاحين وزراعاتهم.