الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب عن: رحلة إلى وادي كركر

رحلة إلى وادي كركر ووادي حلفا .. فى نهاية الصف الثالث الإعدادى، أى عام ١٩٨٣، غامرت فى رحلة مع أحد أبناء أعمام أمى فى رحلة عمل إلى وادى كركر .
ورغم أننى كنت أعيش حياة ناعمة ومدللة فى منزلى فى الرياينة إلا أننى فى إحدى زياراتى الأسبوعية خلال العطلة الصيفية لقريتى الأم بالرزيقات قبلى، فوجئت بأن بعضًا من أهالى القرية والقرى المجاورة يستعدون لمغادرة القرية فى رحلة عمل إلى وادي كركر للعمل فى الطريق البرى الذى تقوم مصر بإنشائه بين مصر والسودان تطبيقا لاتفاقية التكامل بين مصر والسودان حينها، وبطبيعة الحال لم نكن نعرف هذه المعلومات إلا فيما بعد.
لم يكن يعمل فى هذا الطريق أى عامل من محافظة أسوان نفسها، بل كانوا يعتمدون فيه على عمال مخافظة قنا لقوة بأسهم وعزيمتهم الحديدية.
أو يبدو أن المقاولين القائمين عليه كانوا من قنا فاستعانوا ببلدياتهم.
كانت مجازفة مني أن اطلب من والدى ووالدتي السماح لى بالسفر إلى وادي كركر مع هؤلاء العمال الأكبر منى سنًا، والأكثر قدرة على العمل.
لا أعرف ما الذى جعلني أخبر خالى هذا الذى كان يعمل مقاولًا للعمال بأن يقنع أمى لكى اذهب معهم فى تلك الرحلة.
السماح لي بالسفر إلى وادي كركر
كان الرجل يضحك وأنا أقنعه، خاصة وأننى لم أكن معروفًا بين أقرانى بأنى احتاج للعمل أو أننى قد عملت من قبل.
لكن الرجل نزولًا على رغبتى قرر محادثة والدتي، فاندهشت هى من الأمر برمته.
لكنه ذكر لها أن الفترة فترة إجازة صيفية وفرصة للولد يغير جو، طالبًا منها بأن تجعلني «أتودك شوية»، وجسمى يشتد عوده.
وكانت الإشكالية فى والدى الذى رفض الأمر برمته، فأقنعته أمى بأن خالى هذا، سيراعينى كأحد أبنائه، ولن يدعنى أعمل أى عمل شاق كأقرانى الكبار.
وبعد شد وجذب سمح لى أبي بالسفر بصحبة تلك المجموعة بعد تحميلى المسؤلية كاملة عن هذا الإجراء.
وأعتقد أن أبى كان رافضًا للأمر برمته لكن حيلى المتكررة على أمى وحسن وساطتها جعلاه يسلم فى النهاية لرغبتى.
وأعتقد أن تلك الحيل التى مارستها قد جعلانى أتحمل فيما بعد مشاق الرحلة وتعبها.
كان وادى كركر اسما على غير مسمى، المكان الحقيقى الذى ذهبنا إليه.
فقد كان هذا الوادى يبعد عن منطقة صحارى أسوان عدة أميال قليلة.
لكن على أرض الواقع، كان المكان الذى ذهبنا إليه هو وادى حلفا الذى يبعد أكثر من 250 كيلو عن وادى كركر نفسها، المكان الذى أخبرونا بالذهاب إليه فى البداية.
أصدقاء رحلتي إلى وادي كركر
وجمعتنى الرحلة بشيوخ وشباب أمثال أحمد أبو على أبو طلب ومنصور أبو عروج وأحمد عطعوط وأحمد أبو لكلوكة وحسين أبو العوجة وأحمد أبو العوجة وشحات أحمد عثمان وعبد العزيز أبو حسن وحجاج حسن عبد القادر وحجاج عبدالدايم أبو شريفة ومحمود عبده نصرالدين وأخيه محمد وخالد حسن غرباوى وأحمد خزان وغيرهم الكثير والكثير من قريتنا ومن الرزيقات بحرى.
وحينما وصلنا إلى أسوان عبر القطار، وأكلنا وجبة السمك الرئيسية، وشربنا آخر مشروب ساقع قبل أن نركب فى قلابات كبيرة، أخبرونا بأن رحلتنا إلى وادى حلفا، وليس إلى وادى كركر .
وبطبيعة الحال لم نكن نعرف لا هذا المكان ولا الآخر الذى أخبرونا به.
ولو كنت أعرف حينها هذا المكان ما كنت أكمل رحلتى إلى هذا المكان القاحل والسيء الذكر.
ذكرياتي في وادي حلفا
فقد كان وادى حلفا هذا يقع فى بطن الصحراء، وفى أبعد نقطة عن نهر النيل فى داخل الصحراء الغربية.
وحينما اقتربنا من هذا الوادى كان أول ما لفت نظرنا هو الحجم الكبير للإبل والجمال النافقة عبر الطريق.
فقد كان هناك بعير نافق فى كل متر تقريبا على جانبى الطريق.
كان المنظر مفجعًا ومحيرًا، ويدعو للتساؤل: ما الذى جعل تلك الجمال تضيع فى الصحراء بهذا الكم الهائل والكبير؟
وما حجم الثروات التى خسرها أصحاب تلك الجمال؟
حينما تقترب من الطريق أكثر تأتيك الإجابة بأن هذه الخسارة لم تكن فى سنة واحدة أو لعدة رحلات مرت عبر هذا الطريق، بل إن آثار بعضها ينبيء بأن هناك آثارا قد اختفت، وأخرى حملت بقايا الرحلة وطول الطريق.
حيث كان هذا الطريق يلخص الرحلة التجارية عبر مصر والسودان عبر القرون الماضية، وبالتالى تحولت شواهد هذه الجمال إلى علامات وإرشادات لكل من يضل الطريق.
المهم أننا نزلنا فى صحراء منبسطة تقترب من جبل شاهق تحول إلى صديقى اشكو له همومى وغربتى فيما بعد، ولا توجد بها أى ملامح لخضرة، اللهم إلا شجيرات صفراوات نحيفات قرب كرفان مدير شركة الطرق والكبارى بتلك المنطقة.
الندم على تلك الرحلة!
لا أخفى سرًا بأنني حينما نزلت المكان تمنيت أن لو لم أكن فردًا ضمن مجموعة العمل المصاحبة.
وتمنيت أن لو كانت أمى وأبى قد تشددا أكثر ومنعانى عن السفر لتلك الناحية المهجورة والمنعزلة عن العالم.
نمنا بقية ليلتنا على أسرّة خشبية صنعها العمال الذين سبقونا لهذا المكان، ثم استيقظنا فى الصباح وكأننا حمر مستنفرة فرت من قسورة، وكان حال غالبية المصاحبين لا يختلف كثيرًا عن حالى، حيث كان غالبيتهم من المتعلمين الذين يقضون الصيف فى العمل أملًا فى جمع بعض المال لشراء ملابس لمدارسهم وجامعاتهم.
وزاد من الأمر صعوبة أننى كلفت أول يوم بعمل خفيف جدًا، وهو أن أضع خرطومًا داخل فوهة الهراس الذى يقوم بالمرور على الأسفلت ليتماسك ويندهس على الأرض.
كانت مهمتى هى ملء خزانه بالمياه عبر هذا الخرطوم، وبالتالى لا توجد مهمة أخف من تلك المهمة.
لكننى حرمت من صحبتى وبعض الأقارب، وكانت تلك مأساة لم استطع تحملها.
وكان الرجل القائم على هذا الهراس مجنونًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
(دا مش وادى حلفا دا وادى الجنون)!!
ورغم أنه من الوجه البحرى لكن يبدو أن طول فترة بقاءه فى الجبل، وداخل الصحراء، قد جعلته هكذا لديه بعض الخلل، فكان يردد ذهابًا وعودة (دا مش وادى حلفا دا وادى الجنون)!!.
وكان يتركني وحيدا فترة طويلة ليعود يأخذ المياه المطلوبة وأنا بين الصحراء والشمس والجبال، ولا أدرى حتى لو فكرت فى الهرب والعودة إلى قريتى أى طريق أسلك؟
وأى سيارة تقلنى؟
وأى اتجاه اسلك؟
كرهت الدنيا حينها وكرهت تفكيرى وإصرارى على المضي قدمًا فى هذه الرحلة على غير رغبة أسرتى.
واعتقدت أنه عقاب من الله نزل بى نظير مخالفتى لوالدى ووالدتى وإصراري على السفر إلى وادى كركر .
فقد كنت أذهب إلى هذا الجبل المجاور واحكى له عن غربتى وصعوبة المكان وبعد الرحلة ومشاق العودة.
فكيف لى أن أتحمل الحياة باليومية كما يقولون، فقد كانت المياه تأتى لنا عبر تنكات كل يومين، وكذا الصحف وكذا الخضروات وما شابه.
كان أى عطل فى سيارة الإمداد والتموين تسبب إحباطًا لنا.
العمل مع فريق «التفجير»!
بعد يومين طلبت من قريبى هذا، أن يغير لى العمل، فقرروا إلحاقى بأحد أقاربى فى القرية، ممن يعملون فى التفجير.
وكنت لأول مرة أتعرف على الديناميت، المادة المفجرة للارتفاعات التى تعوق الطريق.
كانت مهمتنا فى عملنا الجديد هى زرع هذا الديناميت داخل حفرة من أرض الجبل، ثم إشعاله، ثم الهرب بسرعة من المكان، حتى لا ينفجر فينا، فيجعلنا كالحجارة التى تتناثر يمينًا ويسارًا.
ورغم صعوبة هذا العمل مقارنة بالعمل السابق إلا أننى أحببت روح المغامرة والمجازفة المرتبطة به فبقيت فيه مدة.
وبعدما كدت أتعرض لحادث نتيجة تأخرى فى ترك مكان الديناميت، قرروا إلحاقى فى عمل أسهل من هذا العمل، وهو إحصاء عدد العربات التى تحمل الأسفلت، وكانت أى نقطة تلحق بك من تلك الحمم التى تحملها هذه القلابات كفيلة بأن تحرق جلدك وتحدث بك كارثة.
فقررت ترك هذه المهمة لخطورتها والالتحاق بالعمل القريب من عمال رصف الطريق مباشرة، فكنت أعمل مع المهندس القائم على قياس الطريق وضبط زواياه ومسافاته.
أعجبتني تلك المهمة ليس لسهولتها ولكن للحرج الشديد الذى سببته لقريبى الذى اصطحبنى معه.
فما من عمل أدخل فيه إلا وسرعان ما أتركه أو يتركني.
كان مما يهون علينا أيام وادى حلفا، هو لعب كرة القدم الذى كنا نقوم به طيلة عصر كل يوم، أو المشى فى الصحراء فى ظل ضوء القمر، أو الاستمتاع بقراءة المجلات التى استقدمها الشبان الأكبر منى سنًا.
وكانت صحبتى مع هؤلاء الأفراد من أمتع ساعات حلفا، وأهم ما خرجت به.
فقد كان هؤلاء أكثر وعيًا وخبرة حياتية، فمنهم من كانوا فى الثانوية العامة ويستعدون لدخول الجامعات ومنهم من هم فى الجامعات بالفعل.
كنت محبوبًا من الجميع لكونى أصغر أفراد المجموعات الموجودة فى هذا المكان جميعا.
لم يكن هؤلاء الشباب من مكان واحد، بل جاءوا من أماكن عدة من البياضية ومن الرزيقات قبلى وبحرى وغيرها، كل مجموعة تابعة لأحد مقاولي العمال.
قضيت أربعين يومًا هى من أهم أيام حياتى.
شظف الحياة في وادي كركر ووادي حلفا
فقد تعرفت على شظف الحياة بعد رغدها، وتعرفت على أماكن لم أرها على الخريطة السياسية، ومارست ألعابًا كنت محرومًا منها، وتعرفت على عقول استفدت منها.
وسافرت لنقطة بعيدة لم أتوقع يومًا أن أفكر في السفر إليها بمفردى.
وفى وادى كركر اقتربت من حياة العمال الموسميين والدائمين على السواء، وكذا التفت طويلًا للعلاقة بين مصر والسودان، ليس من خلال شواهد الطريق النافقة فحسب، بل عبر تدشين الطريق الرابط بين الدولتين، ومشاهدة السياسيين القائمين عليه سواء المصريين أو السودانيين.
فقد دعينا ذات يوم للقاء وزير النقل والطرق المصرى ونظيره السودانى.
وسمعنا منهم كلامًا لم نسمعه من قبل ولم نتعرف على طبيعة العمل الذى نقوم به ونحن صناعه.
وبالتالى كانت هذه الرحلة التى تبعد عن قريتى بأكثر من 450 كيلومترات من أهم الرحلات فى حياتى.
فقد شاركت فى صنعى كمؤرخ بالتجربة قبل الوصول لمرحلة التعلم بمدة كبيرة.
خالطت حياة العمل والعمال، وخرجت ببعض الأفكار الأولية التى طورت عقليتى فيما بعد.
احتككت برجال كبار السن وسمعت حكايات كثيرة عن القرية وخصوصياتها.
واحتككت بالشباب فخبرت روح المغامرة والجرأة.
وخرجت بمجموعة لا حصر لها من الأصدقاء، فأدركت بأن الله يوفر لنا تجارب قد تكون صعبة فى ظاهرها لكنها عميقة فى تأثيرها فيما بعد.