الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: في مدرسة أرمنت الثانوية

مدرسة أرمنت الثانوية العامة .. بعد نجاحى فى الحصول على الشهادة الإعدادية بمجموع متميز قررت أن أدخل الثانوية العامة رغم أن أحد أهم اصدقائي قد دخل مدرسة المعلمين.
وحاول بكل الطرق أن يجذبني إليها، فرفضت مناشداته المتكررة حول هذا الأمر.
لأن المعلمين لا تحقق أحلامي فى الوصول للجامعة ودراسة الهندسة التى كانت رغبتى فى البداية متحولقة حولها.
وكانت مدرسة أرمنت الثانوية هى طريقى الوحيد لتحقيق احلامي.
المهم انك حين تدخل المدرسة الثانوية العامة بأرمنت الوابورات، وهى فى أهم مكان على النيل لايفصلها عنه إلا متنزه صغير، فإنك تدخل التاريخ من أوسع أبوابه، حيث أنشأت عام 1956 معبرة عن فعاليات ثورة يوليو ونهضتها التعليمية.
هذه المدرسة التى خرجت من أبناء أرمنت الكثير ممن أصبحوا أطباء ومهندسين وصحفيين ولواءات جيش وشرطة ومدرسين وأعضاء برلمان وقامات مشرفة فى كل المجالات.
تلك المدرسة التى جعلتنى من أول يوم ارتبط بها.
وحين تدخل من بوابة مدرسة أرمنت الثانوية تشم عبق التاريخ، وتتشارك أحلام الشباب ممن يحلمون مثلك.
مدرسة أرمنت الثانوية العامة
كان شكل المدرسة مبهرا منذ لحظة دخولها، فبوابتها الرئيسية تقودك إلى عدة اتجاهات:
إحداها له فرعان ينقلانك للدور الأول مباشرة، وبه إدارة المدرسة والمكتبة ومعامل العلوم وفصول، وهذا الدور ينزلك من الجهة الأخرى باتجاه فناء المدرسة وملاعبها الواسعة سواء للقدم أو كرة السلة أو الطائرة والحمامات.
أما الاتجاهان الآخران عند المدخل الرئيسى فيقوداك يمينًا ويسارًا لمداخل الدور الأرضى مباشرة وأيضا إلى الطابور وأفنية المدرسة ومعامل الزراعة والرسم وحجرة الصحافة.
عالم الثانوية العامة له سحر خاص به، حيث تلتقى فيه بالمتفوقين من كل مكان والحالمين لأنفسهم وأسرهم بمستقبل أفضل وطموحات علمية لا حد لها.
منهم من يحلم بأن يكون طبيبا، ومنهم من يرغب فى أن يكون مهندسا، ومنهم من يريد دخول كلية السياسة والاقتصاد، وآخرين يرغبون فى الاعلام وفى التدريس وفى ارفع مناصب الدولة.
واحتكاكك بعوالم الأحلام هذا، يجرك إلى طموحك أنت.
تغيير المسار!
فقد دخلت مقررا دخول كلية الهندسة، وكنت متفوقا فى مجال الرياضيات بشدة فى المراحل السابقة على الثانوية.
لكن القائم على تدريسها لنا كرهني فى التخصص، فقررت أن أغير خياراتى للطب، فانتهى بى المطاف لاختيار القسم الأدبى لذات السبب.
ونظرا لمحبتى للتاريخ والأدب والشعر وكل ما له علاقة بعلوم اللغة والآداب قررت أن أدخل القسم الأدبى.
أعتقد أن خياراتنا لا يمكن تحديدها بحبك لمادة معينة وكراهيتك للأخرى، ولكن الله يحدد لك المسارات التى يراك فيها، وبالفعل رضيت بما قسمه الله لى وتعاملت معه.
ويبدو أن عودتى لقريتى الأم فى بداية الصف الثانى الثانوى قد كان لها علاقة واضحة بهذا القرار.
فعودتى للقرية يعنى أننى فقدت نصف قوتى فى المذاكرة.
فصحبة القرية وأقربائى الكثر جعلت خياراتى تذهب للقسم الأدبى، كونه الأسهل فى الدراسة ومضمون النجاح بأقل مجهود ويمكننى من تعويض ما فاتني من اللعب.
فكنت فى الثانوية العامة، ومع ذلك ارتبطت بصحبة من الدبلومات الصناعية والتجارية، وكانت حياة هؤلاء مكرسة للهو واللعب والجلوس فى الشوارع الجانبية والمنادر.
وجذبني هؤلاء فى فترة كنت أحوج ما يكون لصحبة الكتب ومشاركة اقرانى فى الالتزام بالمذاكرة وقضاء أكبر وقت بين المراجعات والمناهج والكتب.
أعتقد أن ثقتى في نفسى، وبأننى بأقل مجهود سادخل كلية السياسة والاقتصاد قد قادني لدخول كلية الآداب.
الثانوية العامة ملتقى أبناء أرمنت
والمدهش فى الأمر، هو أنك حينما تدخل الثانوية العامة تلتقى بكل أبناء أرمنت من شتى قراها ونجوعها.
شمالًا من الضبعية إلى المريس إلى أرمنت الحائط إلى أرمنت الوابورات وضواحيها.
وجنوبًا من الشيخ احود إلى الغريرة إلى المحاميد بحرى وقبلى ثم الديمقراط فأولاد الشيخ والرزيقات قبلى وبحرى انتهاء بالرياينة.
وشرقًا من الطراخين إلى العديسات والطود وغيرها.
وتلتقى بعوالم شتى من البشر من أعلى الفئات وأدناها، ومن الأغنياء والفقراء.
تلتقى بأبناء الضبعية فيحدثوك عن مبرزيهم من أبناء الزناتى وغيرهم، وتلتقى بأبناء المريس فيحدثوك عن أولاد العمدة على بخيت وبيت الحايق وأسرة أول نائب برلمانى هو عباس قناوى.
لكن حينما تلتقى بأبناء أرمنت الحيط تجدهم مشحونين بالتاريخ وبالفخر ببلدهم التى تعج كتب التاريخ وكتب الرحالة بذكرها.
ويقولون لك اقرأ كتابات جيوفاني بلزونى وآرثر كالندر مسئول السكك الحديد الإنجليزى ودروفتى وجاست ماسبيرو، وما قاله السفراء الأجانب عن بلدهم، ولعمرى ما كنت أعرف شيئًا عن هؤلاء الأشخاص الذين يتحدثون عنهم، ولا سمعت بأى خبر عن كتاباتهم.
يسألونك: هل تعرف مسجد العمرى الذى بناه عمرو بن العاص فى بلدهم؟
يستفزوك بالسؤال عن معبد أرمنت وأين يقع؟
وعن أسراره وعلاقة الرحالة الأجانب به؟
يسألونك عن مسجد زيدان الذى بنوه فى القرن 19؟
ولا تدري أى إجابة يمكن أن تقدمها لهؤلاء المهوسين بالتاريخ.
فيلاحقوك بأنهم بلد النواب البرلمانيين أمثال زكريا بدار وبيت الناظر ومكى الجلنط وغيره.
يبادروك هل تعرف شيئا عن العريضة؟
وهم يقصدون بلدهم لاتساع مساحتها ولكثرة عدد سكانها، وأنت لا تعرف شيئا عما يقولون.
حكاية النحاس باشا
تحاول أن تتعرف على بيوتهم من الشناترة والمجانين والمجاملة وبيت الشيخ الطاهر وبيت ابوفتيت وفضل المرابط والجلنط وبيت ابوستيت، فتدرك بأنك لا تعلم شيئا عن قرى بلدك.
كنت أول مرة أسمع منهم عن النحاس باشا ولقائه بعدد من مبرزيهم فى الأقصر سنة 1935.
وكنت لأول مرة أسمع عن العدد الكبير من بلدهم من القضاة ولواءات الجيش والشرطة والمشايخ من علماء الأزهر ومبرزيه.
وأعتقد أن صداقاتى مع أبناء ارمنت الحائط قد أفادتنى كثيرًا فى ارتباطى بالتاريخ ومحبته.
تنزل جنوبًا لتحتك بشباب المحاميدين والرزيقاتين، فتجد أن الأمر لا يقل عن الشمال فى شيء، لكن هذا الجنوب أعرفه جيدًا وقد تحدثت عن رموزه من قبل.
يا لهذا التاريخ المجيد لأرمنت.
ويا لجهلى بصناعه وصانعيه!!.
اكتشفت أننى أجهل كل الثورات الشعبية التى شاركت فيها أرمنت.
واكتشفت بأننى أجهل نجاحات وطموحات حققتها مدرستنا الثانوية نفسها.
وأن الصور التذكارية للمدرسة توفر لى شيئا من عبق التاريخ كنت أجهله.
الحب الأول!
كان كل شيء جميلًا فى المدرسة الثانوية بدءًا من الإذاعة المدرسية التى تعلقت بإحدى مذيعاتها، انتهاء بالحصول على الجريدة الرسمية والعودة للمنزل.
وفيما يختص بالطالبة المذيعة التى تعلقت بها فى البداية فكانت فتاة تكبرنى بعام، لكن صوتها الرخيم وحلاوة اطلالتها، جعلني أتابعها بشغف، لكن لم يتطور الأمر لغرام ومحبة.
فسرعان ما جذبتنى إحدى جميلات المريس بنعومتها وأنوثتها، وأيضا لم يتطور أمرها لخطبتها من ابن عمها، فتحولت بعدها إلى جميلة أرمنت الوابورات، وحديث شبابها عنها.
كانت عيونها قاتلة وحركاتها فاعلة، كانت تجلس أمامى فى الفصل حينما قررت دخول القسم الأدبى، فشتت ذهني عن كثير من الدروس، وأعتقد أنه لولا وجودها معى، لكنت من الحاصلين على المركز الأول فى الثانوية العامة.
لكن مشكلتها كانت طموحاتها، فهى لا تنشغل أبدا بهؤلاء الشباب المنشغلون بها، كانت تركز على المذاكرة والدرس فقط.
ومع ذلك لم تحقق من طموحاتها شيئًا، حيث دخلت فى ذات الكلية التى دخلتها أنا بأقل مجهود.
ولم انشغل بها فيما بعد لانشغالى بغيرها ولدخولها لتخصص آخر.
الحب في مرحلة المراهق
أعتقد أننى كأى شاب فى مرحلة المراهقة لا يتعمق فى الحب بالقدر الكافى، لأسباب كثيرة:
أولها: تقلبات الشباب وتغير أمزجتهم.
ثانيها: قلة الخبرة وعدم القدرة على الإفصاح بمكنونات النفس للحبيبة.
ثالثها: تركيز بنات الثانوية على بناء مستقبلهن.
رابعها: عدم القدرة على تحقيق الأحلام، لصعوبة الإفصاح لولى الأمر بالرغبة فى الزواج من فلان أو فلانة فى هذا السن.
وجدير بالذكر، أنه لم يعكر صفو مدرستتا الثانوية إلا صوت مصنع السكر المجاور، والذى لا يفصلنا عنه إلا الشارع.
فضلا عن الدخان والهباب المنبعث منه، والذى يعم فناء المدرسة ويدخل علينا الفصول ويسبب لنا المتاعب ويصيبنا بالتشتت وعدم التركيز.
فى المدرسة الثانوية ارتبطت بمكتبة المدرسة وكنت من أبرز القراء والمنتفعين بكتبها، فطورت أفكارى وقدمت لى معارف وعلوم كنت فى حاجة إليها.
قرأت عن ماركس ولينين وقرأت فى أدب شكسبير وكتاب الأمير، وزرت قصصا وحكايات، وارتبطت بأشعار وأفكار ونظريات.
فهمت بعضها وتاهت منى خيوطها الأخرى.
وارتبطت أيضا بمدرسيها من أمثال سيد العمرانى مدرسة الفلسفة، ومحمد سيد ابوالاحمر مدرس التاريخ، واحمد بهنسى مدرس اللغة العربية، واحمد عبدالمعبود مدرس الجغرافيا، وقناوى عبدالحميد مدرس اللغة العربية، والحاجة صفية زوجة النائب يوسف رشوان ووالدة الأستاذ ضياء رشوان، وكذا بأم صديقى وزميلى فى المدرسة احمد فهمى الذى أصبح ضابطا فيما بعد، ومدرس الصحافة وغيرهم الكثير والكثير.
خرجت من الثانوية بأفكار وطموحات لا حصر لها.
شارك فى صنعها أفراد كثر مثل الأستاذ عبدالراضى طنطاوى ومحمد السيد وغيرهم من المنتمين للتيارات السياسية المبرزة، كحزب التجمع والوفد والوطني.
واستفدت من مكتبة قصر ثقافة أرمنت، ومن منافذ توزيع جرائدها.
وخرجت بصداقات وأحباء وزملاء من القرى والبلدات.
بعضهم صاروا نوايا فى البرلمان وبعضهم صاروا أساتذة جامعات وبعضهم أطباء ومهندسين وبعضهم صحفيين وإعلاميين وضباط جيش وشرطة، وبعضهم معلمين واخصائيين اجتماعين وموظفي بريد ومديرى بنوك وتجار وصناعيبن.
فسلام إلى كل هؤلاء شركائى فى بداية الرحلة وأصدقائي واخوتي حتى الآن.