الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب عن: ألعاب القرية

ألعاب القرية وتسلياتها.. بحكم أننى عشت فى أكثر من قرية، يمكننى القول بأنه ما من قرية من قرانا الصعيدية إلا ولها ألعابها وتسلياتها التى تتشابه فيها مع الأخرى أو تختلف عنها فى بعض النواحى.
وكانت هوايتي الأهم والأكثر استمرارا هى ممارسة لعب كرة القدم.
وأعتقد أن ملاعب مدرسة الرياينة الابتدائية هى التى طورت من مهاراتى فى تلك اللعبة، بدءًا من الكرة الشراب انتهاء بالكرة «الكفر».
ففضلًا عن ممارستى لها عصر كل يوم فى طريق المشروع، وهو المعروف بطريق القاهرة أسوان على ترعة أصفون.
فقد كان هذا الطريق غير مرصوف ونادرا ما تمر به سيارات، لذا كان هو متنفسنا فى ممارسة هوايتنا بعد المدرسة.
وحينما عدت لقريتى الأم مارست اللعبة فى أكثر من فريق، مع فريق الغربيين والشرقيين وفريق السكة الحديد أحيانا.
وتنافسنا كثيرًا مع فرق الرشايدة والجروف والشخايرة.
فضلا عن ذهابنا للعب مع فرق خارج قريتنا فى دورات منتظمة أو فى لقاءات ودية تنافسية، كفرق المحاميد بحرى وقبلى والدهامشة والغريرة والديمقراط والرباينة.
ولعبنا فى ملاعب شركة السكر فى المنشر مع فرق أرمنت الوابورات وذهبنا للفتاتيح فى الشرق وجزيرة أرمنت الحيط إلى غير ذلك من فرق.
السباحة أحب الألعاب إليّ
وتأثرت كثيرا بنجوم قريتى أمثال يوسف وخالد بغدادى ويوسف سلطان وعبدالرافع وخالد النجار وعماد أبوبكر وأحمد أبو العوجة ومحمد على السمان وعبداللاهى ابويوسف وحسن عبدالله وأحمد عبدالرحمن وعادل صديق وخيرى وخالد أبو شريفة وأحمد إبراهيم وماهر أبو السايح وأحمد أبو عربى والسيد عبدالعاطى والمرحوم الدكتور محمد محروس أبو على وأبو حمادة وحجاج أبو الغريب وحجاج بصرى وحجاج أبو كامل وغيرهم الكثير والكثير مما لا يمكن حصرهم هنا أو عدهم وممن لا يقلون مهارة عن نجوم الصف الأول فى الدورى الممتاز لو أتيحت لهم الفرصة.
أيضا كنت أحب السباحة، ومارستها فى الرياينة مرارًا وتكرارًا.
لأنها كانت رياضتى الأولى، بحكم أننى مصاحب لأبى دومًا على حاجز ترعة أصفون.
فكان طبيعيًا أن أجيد السباحة جيدًا لأسلم من الغرق على حد قوله.
ناهيك عن أننى عديت النيل للجهة الأخرى أكثر من مرة.
بل كنا نقسم أنفسنا فرقا وجماعات على شط النيل، كل محموعة تلقى بالأخرى داخل النيل فى استعراض للقوة والبأس.
لقد مارسنا ألعابا كثيرة أخرى، كالضمنة والشطرنج ولعبة الضاح والبلى وسباق العجلات وعسكر وحرامية والاستغماية والنصوبة والشباط والرسغ، واستمتعنا بالمسرحيات خفيفة الظل التى كان يرتجلها أبناء الشارع الغربى أمثال عبد الحي أحمد حسن وشقيقه محمود وعبد الدايم أبو الروس وحجاج أبو الصادق وحجاج أبو الغريب ويوسف أبو سندق وغيرهم، ممن امتعونا تمثيلًا وغناء وتسلية.
ألعاب القرية الأربع الشهيرة
لكن هناك من الألعاب ما لا يمكن نسيانها وأشهرها أربع:
الأولى، لعبة التحطيب:
أو ما يسمى عندنا فى ألعاب القرية هو لعبة السوه.. حيث كانت حلقات التحطيب تتم فى مناسبات القرية وأفراحها، وعلى مستوى أوسع فى موالد أرمنت المنتظمة فى أهم ساحاتها، أمام المسجد العتيق بارمنت الوابورات.
وكنت أتابعها جيدا عندنا فى أفراح القرية ومناسباتها، وكنت أتمنى أن أكون أحد نجومها مثل حجاج أبو الهواش او عطا أبو قمبر أو محمد أبو كامل أو حسين أبو مأمون أو ابواللحمدى أو يوسف عبدالعال أو عبده ابومحمدين وغيرهم..
أو الشباب أمثال خالد ابوشريفة والمرحوم مغاورى وغيرهم.
ففى أى فرح من أفراح القرية، يبدأ الأمر حينما يعلن أحدهم عن رفع العصاية من بعد العصر، وكان يستمر هذا العراك الحميد حتى المغرب، ولمدة أسبوع أو اثنين، حسب طول الفرح أو قصره..
كان يتم رفع العصاية من العصر وحتى المغرب، ويجتمع المحطبين من كل نواحي القرية والقرى المجاورة، من المشاركين فى الفرح.
وكل فرد يدخل هذه المبارزات فى عزيمة واصرار وتحد وخفة حركة واستعراض للعضلات لحد الختل والمباهاة.
وبمجرد أن يقول أحدهم سوه، يعنى انه يعلن البدأ فى التحدى، فيخرج له أحدهم، ثم يلفان ثلاث أو أربع لفات، وبعد ذلك يلتحمان مباشرة ضربات متلاحقة وحركات استعراضية من أعلى وجه الخصم ومن شتى جوانبه.
وعندما يجد الحاضرون أن أحد اللاعبين قد فتح أكثر من باب، وأنه قد أرهق بعض الشيء يدخل لاعب آخر الحلبة ويقول سو، وتعنى هات العصا ويستمر المنتصر داخل الحلبة.
وهكذا يستمر النزال محتدمًا، حتى تبدأ الحفلة الرئيسية بعد العشاء، سواء أكانت بالرباب والمزمار، أو من خلال عرس أبو داود.
حاولت لعب التحطيب ولم أستطع
وأذكر أننى حاولت كثيرا ان اتعلم هذه اللعبة، لكن طابع السرعة والتداخل السريع الذى كان يجرى داخل الحلبة لم يجعلنى أغامر إلا مرة أو مرتين مع بعض المحدثين من أمثالى.
وكان لا يمكن لى مجاراة المحترفين فيها لمجرد معرفتى ببعض قواعدها وتحركاتها، فكان على الفرد أن يتعلم مهاراتها وثغراتها قبل الإقدام على الحلبة ونزول الساحة.
خاصة وأن بعض المحترفين يكون كل تفكيرهم أثناء الحركات الاستعراضية التى يقومون بها هو فتح الباب مباشرة مع المبتدئين فيها وإخراجه مباشرة من أول جولة، لأنه ينتظر منازلة أشخاص بعينهم، ولا طاقة له فى المضى قدما مع الهواة.
أما إذا تقابل هو نفسه مع لاعب محترف مثله، سنجد أنه قد توافق فى اللعب معه من أول ضربة، بما يدلل على القدرة الفردية والاحترام الشديدين، وكنوع من الثقة فى النفس والخبرة.
وكان شباب العائلة الكبار يعلموننا فى دبة الجامع العتيق بعضا من طرق لعب السوه هذا، سواء كانت دفاعية أو هجومية.
وبالفعل تحسنت كثيرا فى طريقة إمساك العصا الثقيلة، كالشومة، والمتوسطة من الخيزران.
فضلا عن تحسنى فى طرق الاشتباك والصد، حيث حققت طفرات كبيرة جدا.
حيل السيجة التي تعلمتها
أما فى الحيل التى كانت تستهويني كثيرا، فكنت أركز عليها وأتدرب عليها مع نفسى وإلى الآن يمكننى أن اصد عشرات الضربات حتى لو وجهت لى بسرعة، وأحيانا كان أبى يقوم بتدريبى عليها بحكم أنه مر بها ويعرف كثير من حيلها.
لكن نجاحاتى فيها اقتصرت على التمرين فقط، فقد كنت أخشى من المواجهات فى ساحات الأفراح، اللهم إلا مرة أو مرتين، وانتصرت فى التمرينات كثيرا نتيجة حبى للعبة وتعلقى بها.
ومع أن العنف كان غير متبع داخل حلقة التحطيب، وأن الطابع الاستعراضى كان هو الغالب فى أفراح القرية وأعراسها، إلا اننى لم أتغلب على تخوفاتى من المواجهات المباشرة مع أى محترف من المحترفين أبدا، وكنت أعتقد أنه لو أحرجنى أحد أمام الناس فسوف أصوب له الشومة فى رأسة مباشرة، وليكن ما يكون.
وأعتقد أن سبب تأخرى فى ممارسة هذه اللعبة فى المواجهات الحية هو قلة تدريبى عليها ومعيشتى خارج قريتى الأم.
فعلى الأقل كان شباب العائلة يعلموننا طرق الدفاع عن أنفسنا، حتى لا يتعرض احدنا لضربة تدميه أو تكسره، فيسبب الأذى وتحدث المواجهة مع الخصوم من العائلات الأخرى، أو حتى مع نفس بيوت العائلة نفسها.
الثانية، لعبة الطاب:
وكنت أخشى أحكامها العنيفة والغلو الكبير الذى يحدث خلال تنفيذ الأحكام. لكن كأى شاب كان لا يمكننى إلا ممارساتها، خشية إلا يفسر هذا تفسيرًا خاطئا.
فلعبة الطاب هى من ألعاب القرية المشهورة بين الشباب ولا يمارسها الصغار. وتعتمد على المهارة واللياقة والحظ.
حيث تقام اللعبة بين فريقين، وغالباً يتكون كل فريق من أربع لاعبين، وتعتمد على أربع شرائح من جريد النخيل، كل شريحة لها جهة خضراء، وجهة بيضاء، وعلى عود رئيسى من الجريد ينصب فى منتصف الدائرة البشرية الحاضرة للعبة، مهمته أن ترمى عليه تلك الشرائح، وكذا يتم به تنفيذ العقوبات باستخدام هذا العود كوسيلة للضرب.
ويقوم اللاعب برمي الشرائح على الأرض، فإذا جاءت الألوان الأربعة بيضاء، فيأخذ البيضاء ويصبح اللاعب منفذا للأحكام.
أما إذا جاءت الألوان الأربعة خضراء، فتكون معه خضرة فيقوم بدور القاضى، فيطلق الأحكام.
أما اذا جاءت الألوان قطعتين خضراء وقطعتين بيضاء، تصبح وتنين، فيتحمل الأحكام مهما كانت قسوتها وغلوها.
وإذا جاءت الألوان قطعة خضراء وثلاثة بيضاء، فتصبح وتلات، فيفلت من العقاب.
أما اذا جاءت الألوان قطعة بيضاء وثلاث قطع خضراء فيحصل على طاب، فتحسب له بولد فيقوم اللاعب برمى الشرائح مرة أخرى ليجرب حظه ثاتية.
واللاعب الذى لا يحصل على الطاب لا يدخل اللعبة.
وكانت هذه اللعبة تنصب فى الشارع الغربى أمام بيت أبو سندق، فى أغلب فترات النهار، خصوصا فى الظهيرة، فلا تسمع بعدها إلا صياحا وبكاء وعويلا.
نتيجة الأحكام التى يطلقها أصحاب القلوب غير الرحيمة أمثال ابراهيم وحسن المطعنى، وإبراهيم ابوسندق وغيرهم ممن أذاقوا غالبية الشباب أحكاما تفوق قدرتهم على التحمل.
فقد كان أحدهم يطلق حكما يتجاوز الخمسين ضربة، فيجاريه الآخر ويزيد عليه للمائة وتبدأ بعدها الزيادات والمماطلات، وتنتهى الجلسة بورم فى الأرجل وصعوبات فى المشى وهزار وقفشات على ضحايا هؤلاء الظلمة.
الثالثة، لعبة الحجلة:
فكانت فى القرية عندنا من العاب القرية المخصصة للنساء أكثر منها للرجال، مع أننى رأيتها فى قرى أخرى يؤديها الرجال مع اجراء بعض تعديلات عليها.
فقد كانت بالنسبة للبنات عبارة عن مربعات مخطوطة على الأرض يتنافسن فى الوصول إلى نهايتها بخفة حركة وقدم واحدة والأخرى معلقة.
أما فى القرى الأخرى، فكان يقوم الشباب بالجرى بساق واحدة، اليمنى غالبا، مع رفع الساق الأخرى وامساكها من الخلف بيده اليمنى. وكانوا يلعبونها بعدة طرق، منها سباق السرعة والقفز والتدافع.
الرابعة، لعبة السيجة:
فقد مارست هذه اللعبة كأى قروى يرى انتشارها فى تجمعات مختلفة عبر شوارع القرية لكننى لم استشعرها أو أجد نفسى فيها.
وكانت هذه اللعبة مميزة بين ألعاب القرية المخصصة لكبار السن فى القرية، وهي لعبة رجالية غير مكلفة تعكس في مجرياتها ما يتمتع به الرجال من صبر وهدوء وحسن تخطيط وحنكة.
وكانت ممارستها تتم في الهواء الطلق وتحت الأشجار وأمام المنادر ومساطب البيوت.
واعتقد ان اسمها جاء من السياج الترابى المنصوب حولها وداخلها، كونها تسيج بأربعة حدود ترابية، وداخل هذه الخطوط توجد مربعات محفورة يتوزعها حجارة تسمى بالكلاب.
وكان لكل فريق كلابه داخل المربعات، وهى تختلف في لونها عن حجارة الفريق الآخر.
وتبدأ اللعبة بالتنافس بين كلاب كل فريق، إذ يتم تحريك الكلب الواحد على مساحة السيجة بخطوات ذكية ومحسوبة.
بل يحرص كل فريق على ألا يقتل كلبه بيده أو عبر تحركات الكلاب الأخرى.
السيجة من أشهر ألعاب القرية للكبار
ولعبة السيجة يمكن تشبيهها إلى حد ما بلعبة الشطرنج مع الفارق، وخصوصا أنها قد تستمر لساعات طويلة، ويكون لكل فريق مشجعون كثر حولها.
واذكر أن حسن عبدالله، الشهير بعويس، كان الوحيد من بيننا كشباب قد استطاع أن يشارك الكبار ويجاريهم بل ويهزمهم فيها.
حيث كانت تحركاته وتتقلاته بتلك الكلاب سريعة وجريئة، وفيها من الحرفية ما جعل المحترفون لتلك اللعبة يقرون بمهارته وحرفيته.
وأعتقد أن حسن عبدالله لم يدخل أى لعبة إلا وتفوق فيها، سواء كرة قدم او ضمنة أو كوتشينة أو حتى الطاب الذى كان رحيما فى أحكامه فيها.
وهناك ألعاب أخرى من العاب القرية مارسناها ولا يتسع المجال لذكرها، وبعضها اندثر وصار فى طى النسيان.
لكن الطريف على هامش الألعاب الليلية التى كانت تمتد احيانا حتى قرب الفجر، كنا ناكل ونشرب، وكل يأتى بما يجود به من منزلهم.
وكان أولاد خالى الحج أبو عادلى حسين وحسن، وابن عمى محمد مأمون كرماء فى تلك الليالى.
وحينما تتأزم الأمور كنا نلجأ لحجاج أبو الغريب فيأتى بمغرفة من بيتهم ليغرف لنا من فول بيت ابوسندق الموجود فى الشارع.
والغريب أننا كنا نعترف فى الصباح لصاحبة الفول، زوجة السيد ابوسندق، فتضحك وتبتهج وكأن شيئا لم يحدث.
بل تستغل هذا الامر فتطلب من الأولاد ان يحضروا لها حزمات من قش القصب لنسهر علي نيرانه ونتدفأ بها ونكرر ألعابنا.
ما أجملها من أيام وما أحلاهم من بشر.