الدكتور يحيى الجمل يكتب: سيدة الغناء العربى

الأسبوع الماضى مر على وفاة سيدة الغناء العربى أم كلثوم أربعون عاماً.
وأظن أننى أول من تلقى هذا الخبر الحزين فى الساعة الثانية وخمس عشرة دقيقة ذلك أننى كنت آنذاك وزيرا لشئون مجلس الوزراء واتصل بى مدير مستشفى المعادى آنذاك قائلا «البقية فى حياتكم أم كلثوم انتقلت إلى جوار ربها» وفى نفس اللحظة أخطرت رئيس مجلس الوزراء المرحوم الدكتور عبد العزيز حجازى الذى طلب منى أن أكتب نعى مجلس الوزراء وأن يذاع النعى فى نشرة أخبار الثانية والنصف أى بعد ربع ساعة من تلقى النبأ وبالفعل كتبت النعى واتصلت بوزير الاعلام آنذاك الأخ الأستاذ الدكتور كمال أبو المجد وطلبت منه أن يذاع الخبر فى الساعة الثانية والنصف ثم يذاع بعد ذلك فى كل نشرات الأخبار على مدار الساعة. ومن عجب أن محطة إذاعة أجنبية أذاعت فور إذاعة النبأ من الإذاعة المصرية قائلة إن أم كلثوم لم تمت. وكان لذلك الخبر ضجة غير عادية إذ اتصل بى رئيس الوزراء ثائراً ولكن الله سلّم إذ اتصل بى مدير مستشفى المعادى قائلا أن أم كلثوم توفيت فعلا وأن ما أذيع كان كذبا لا أساس له. وحمدت الله وأخبرت رئيس الوزراء بما أكده مدير مستشفى المعادى. وأحب هنا أن أتحدث عن أم كلثوم التى عشقت صوتها والتى لا أنام إلا بعد أن أسمع واحدة من أغنياتها.
أعرف أنها من القلائل الذين كانوا يستطيعون الاتصال بجمال عبدالناصر اتصالا مباشرا وأنها كانت من القلائل الذين يعرفون رقما خاصا للاتصال به. وقد سمعت القصة الآتية من الشاعر الكبير نزار قبانى الذى اكتشف أنه ممنوع من دخول مصر فهاله الأمر واتصل تليفونيا بأم كلثوم يستفسر منها عن صحة هذا الأمر واستبعدت أم كلثوم أن يكون ذلك صحيحاً ولكنها أخذا بالأحوط اتصلت بالرئيس عبد الناصر الذى تبين أنه لا علم له فأمر بالاتصال ببعض العاملين فى مكتبه وقيل له ألم تقرأ قصيدته التى قال فيها للحكام العرب جميعا وفيهم عبد الناصر بطبيعة الحال ارحلوا وقد يحسن هنا أن أذكر بعض ما جاء فى هذه القصيدة وأن كان الاختيار بين أبيات القصيدة وبعضها أمرا صعبا ذلك أنها كلها بالغة المرارة وكلها لا تزال صادقة حتى يوم الناس هذا.
ماذا يقول الشاعر الكبير نزار قبانى إنه يقول فيما يقول :-
أنعى لكم أنعى لكم نهاية الفكر الذى قاد إلى الهزيمة
جلودنا ميتة الإحساس أرواحنا تشكو من الافلاس
هل نحن «خير أمة أخرجت للناس»
لو أننا لم ندفن الوحدة فى التراب لو أننا لم نمزق جسمها بالخراب
لو بقيت فى داخل العيون والأهداب لما استباحت لحما الكلاب
هذه بعض أبيات القصيدة الصادقة والتى منعت السلطات المصرية فى وقتها الشاعر الكبير من دخول مصر فلجأ إلى أم كلثوم التى اتصلت بعبدالناصر وأخبرته.
وعندما سمع بعد الناصر القصيدة قال لمن حوله إذا كنا نحن بمشاعرنا وإحساسنا العادى كسرتنا الهزيمة وأحزنتنا فهل نستكثر على شاعر مثل نزار قبانى أن يقول ما قال. إنه صادق فيما قال. اتركوه يدخل مصر وعندما يحضر أرجو أن أجد الوقت لأقابله وأكرمه.
هكذا كان عبد الناصر الذى يقولون إنه كان ديكتاتوراً !! .
وواقعة أخرى عن سيدة الغناء العربى يحسن أن أوردها هنا الآن أغلب عشاقها أظن أنهم لا يعرفونها . فى ليلة كانت أم كلثوم عند أمير الشعراء أحمد شوقى وشدت بواحدة من أغنياتها ثم بعد ذلك مدت موائد الطعام للمدعوين ودارت عليهم أقداح النبيذ واعتذرت أم كلثوم لأنها لا تشرب أى نوع من الكحوليات .ولاحظ أمير الشعراء ذلك . وبعد يومين ذهب لزيارتها فى منزلها وبعد أن دخل قدم لها مظروفا وانزعجت سيدة الغناء العربى لأنها ظنت أن أمير الشعراء وضع لها بعض المال مقابل غنائها فى تلك الليلة وطمأنها أمير الشعراء وقال لها افتحى المظروف أولاً ولا تتعجلى بالغضب. وفتحت أم كلثوم المظروف ولدهشتها البالغة وجدت فيه قصيدة جديدة لأمير الشعراء.
هذه هى سيدة الغناء العربى التى مهما قلت فإننا لن نوفيها بعض ما تستحق . لقد أسعدتنا جميعا فى كل أنحاء الوطن العربى ..
***************
الدكتور يحيى الجمل (15 أغسطس 1930 – 21 نوفمبر 2016)
فقيه دستوري مصري، وسياسي، ووزير سابق، أسس بالتعاون مع أسامة الغزالي حرب ومجموعة من السياسيين والمفكرين، حزب الجبهة الديمقراطية، وتولى رئاسته.
اسمه بالكامل (يحيى عبد العزيز عبد الفتاح الجمل)، وهو من مواليد محافظة المنوفية، وحصل على ليسانس الحقوق، عام 1952. وماجستير في القانون، 1963. ودكتوراه في القانون، عام 1967.
عمل في منصب معاون نيابة، عام 1953. ثم مساعد نيابة، 1954. ثم وكيل نيابة، 1954. ثم مدرس بكلية الحقوق جامعة القاهرة، 1964. وأستاذ مساعد، 1970. وأستاذ بقسم القانون العام بكلية الحقوق، جامعة القاهرة. وعميد كلية الحقوق، جامعة القاهرة. ووزير الدولة لشئون مجلس الوزراء ووزير التنمية الإدارية. ونائب رئيس مجلس الوزراء 2011 استقال من منصبه في 12 يوليو من نفس العام.
له العديد من المؤلفات العلمية المهمة، منها: الأنظمة السياسية المعاصرة، 1969. النظام الدستوري في ج.م.ع، 1970. النظام الدستوري المصري. القضاء الإداري، 1986. القضاء الدستوري. نظرية التعددية في القانون الدستوري (عدة طبعات). حماية القضاء الدستوري للحق في المساهمة للحياة العامة. وله العديد من المقالات في المجالات الأدبية في مصر والعالم العربي.
كان د. يحيى الجمل، عضوًا في المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي. وعضوًا في محكمة التحكيم الدولية بباريس. وعضوًا مجلس أمناء جامعة 6 أكتوبر. وعضوًا مجلس الشعب. وعضوًا في مجلس جامعة الزقازيق. وعضوًا لجنة القانون بالمجلس الأعلى للثقافة. وحصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1998.