مساحة للاختلاف

الدكتور مصطفى محمود يكتب: تحذير للكافة

مفاوضات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل وصلت إلي مفترق طرق يؤذن بطلاق لا رجعة فيه وفراق لا لقاء بعده‏..‏ والمشكلة بدأت بمصطلحات جديدة اختلقها خيال المفاوض الإسرائيلي‏..‏ فلم يعد اليهود يتكلمون عن حائط المبكي والمسجد الأقصي وإنما عن خرافة جديدة اسمها جبل الهيكل لا وجود لها إلا في أخيلتهم‏..‏ فلا جبل هناك‏..‏ وإنما هناك حائط المبكي والمسجد الأقصي الخاص بالمسلمين‏..

‏ وماحدث هو أن خيال اليهود رجع بهم إلي ألوف السنين في الماضي البعيد لمحو هذا الحاضر المؤلم الذي لا يعجبهم حيث لم يكن هناك إلا جبل نحتوا منه الهيكل الذي أقاموه علي أيام سليمان‏..‏ وهذا الهيكل الآن هو كائن خرافي لا وجود له في خيالهم‏..‏ أين هو ؟‏!!‏ إنه تحت الأرض‏..‏ تحت أرض ماذا‏..‏ ؟؟ تحت أرض المسجد الأقصي‏.‏

ومن الواضح أنه لا يمكن الوصول إلي هذا الهيكل الخرافي إلا بهدم المسجد الأقصي وانتزاعه من جذوره‏..‏ وبذلك خلقوا هدفا جديدا للاتفاق هو إزالة الموجود لإحياء ماضيهم‏.‏

وإذا كانوا لا يتكلمون عن هذه الإزالة صراحة‏..‏ إلا أنها أصبحت شرطا مضمرا في كلامهم‏..‏ فهم يتكلمون عن جبل الهيكل ولا جبل هناك ولا هيكل‏..‏ والكلام تحول إلي أحلام شرطية تملأ جميع تصريحاتهم‏..‏

والمفاوضات تحولت إلي تدليس وتلبيس وكهانة

والمطلوب أن تكون لدي الفلسطينيين مرونة‏..‏

مرونة في ماذا ؟ لم يبق إلا إحياء الكهانات اليهودية علي أنقاض المقدسات الإسلامية‏.‏

ولم يبق للمفاوض الفلسطيني إلا قبول العدوان الصريح الذي وصل إلي شطب التاريخ الإسلامي كله وهدم المسجد الأقصي من أساسه‏.‏

واليهود يستندون إلي ظهيرهم المتين آل جور وإلي حبر الأحبار القادم جوزيف ليبرمان‏.‏

وهم ليسوا في عجلة من أمرهم‏..‏ ولا مانع من مط المحادثات وإطالة المجادلات فالوقت وقتهم والزمن زمنهم‏..‏

والله يبتلي المسلمين بأعز ماأعطاهم‏..‏ تاريخهم ومقدساتهم‏.‏

ما المخرج ؟‏!!‏

لا مخرج‏.‏

وعلي اليهود أن يتراجعوا عن هذا التدليس وإلا

وإلا ماذا ؟‏!!‏

إنهم لا يخشون بأس الفلسطينيين فلا بأس لهم‏..‏

ولا يخشون بأس المسلمين فلا رابطة تجمعهم‏..‏

والسياسة العالمية الحالية هي التخويف من كل ماهو إسلامي واتهام الإسلام بكل نقيصة‏.‏

والإعلام والفضائيات الأجنبية تدمغ الإسلاميين بالإرهاب والعنف والعدوان وتتحدث عن اليهود المعتدي عليهم المظلومين ضحايا الهولوكوست والمحرقة المساكين المجني عليهم من الجميع في إشفاق وتحسر‏.‏

وفي هذا الجو المشحون بالأكاذيب والأضاليل تبدو الظروف مواتية لأبناء العم أكثر من أي وقت مضي‏..‏

وفي هذا المسرح المعد سلفا تتضح النية لذبح أضحية اسمها الحق العربي المأسوف علي شبابه‏.‏

ولا يبقي للمسلم إلا إيمانه ويقينه بربه‏.‏

وهنا تكمن الحكمة الإلهية لكل ما يجري‏.‏

أنه ابتلاء مثل ابتلاء إبراهيم غليه السلام قبل أن يلقي به في النار وإمتحان للقلوب أرادة رب العالمين لكل مسلم حاكما كان أو محكوما ولكل الحكومات العربية التي أفاء الله عليها من خيراته ومكنها مما هي فيه‏.‏

ولم يعد من الاختيار بد‏..‏ ولا مفر من اتخاذ موقف‏..‏ ولا مفر من اختيار طريق‏.‏

اختيار بين ذل وكرامة وبين عزة ووضاعة وبين الانتصار للحق أو الانتصار للباطل بين الثقة بالله أو الثقة بالدولار وبين إرضاء الصديق الأمريكي أو إرضاء الضمير العربي‏.‏

امتحان للكل بلا استثناء‏.‏

هل أنتم مسلمون حقا‏..‏ ؟‏!‏

ومن ربكم‏..‏ ؟

وما حقيقة انتمائكم‏..‏ وما حقيقة إيمانكم؟‏.‏

ولن يفلت أحد من الفرز

وسوف يخرج كل واحد وهو مدموغ بحقيقته موسوم بصفته إلي يوم الدينونة‏.‏

إنه مفترق الطرق الذي نلتقي به في كل لحظة اختيار لقرار نتخذه‏.‏

ولكنه مفترق طرق خطير هذه المرة‏.‏

والهروب من الاختيار مستحيل والخطأ قاتل‏.‏

وهانحن جميعا نستوي في البلاء‏..‏ ولن نستوي في نتيجة الامتحان أبدا‏.‏

ولن ينفع الغش ولن يجدي التحايل‏.‏

من أنت‏..‏ ؟‏!!‏ أخرج بطاقتك‏..‏ وقل لنا مع أي فريق تحارب‏.‏

هذا ماسوف تقابل به ربك بلا رتوش وبلا مكياج‏.‏

والسلام الذي يحلم به الكل لن يحدث‏..‏

إنما هو مجرد تضييع وقبت وإدخال للمفاوض في متاهة من الدهاليز لكسب الأنصار والحلفاء حتي تحين الفرصة التي يستطيع الخصم فيها أن يغافلك ويقطع رأسك‏.‏

هكذا‏..‏ كل دعاواهم للسلام تخدير وتنويم وإضاعة للوقت‏.‏

لكن الصدام قادم في الطريق‏..‏ والحرب واقعة‏..‏ وهم يريدونها حربا دينية‏..‏ وإذا صدقوا في أنها دينية فإن الله وحده هو الذي سيضع توقيتها ويختار أبطالها‏.‏

هل تقرأ قرآنك‏..‏ أنت تعلم إذن أننا سندخل القدس وسندمر كل مابنوا فيها وكل ماعمروا‏..‏ هكذا تقول سورة الإسراء‏.‏

والمعني أنهم سوف يشيدون ويعمرون وسيكون لهم في القدس بقاء لأجل‏.‏

ثم تأتي الحالقة التي لا تذر فيها دارا ولا ديارا‏.‏

وصبرا آل ياسر‏.‏

لن أقول‏..‏ فموعدكم الجنة‏..‏ فالجنة لا يدخلها المستسلمون المتواكلون وإنما يدخلها الأبطال المناضلون الذين لا يقبلون الضيم ولا يساومون في المباديء‏.‏

ولا أعني بهذا الصبر‏..‏ المعني الشائع الذي تردده الأغاني‏..‏ لا أعني صبر الأحلام واسترخاء العزائم‏..‏ في انتظار الفرج الموهوم‏.‏

إنما أطالب بصبر الإعداد والاستعداد‏..‏

صبر الفتوة واليقظة لاصبر الاستجداء وطلب الصدقات

صبر التدبير والتخطيط وشحذ الهمم لا صبر المغلوب وانتظار المكتوب‏..‏

ويا عطارين دلوني الصبر فين أراضيه‏..‏

صبر الدول القادرة‏..‏ العظيمة في إمكانياتها‏..‏ لا صبر المتسولين علي أبواب الأضرحة‏..‏ السائلين الرزق دون عمل‏.‏

نحن بضع عشرة دولة عربية‏..‏ لها صوت وتاريخ وحضور ومواقف‏.‏

وقديما أصدر الملك فيصل رحمه الله في حرب ‏73‏ قرارا تاريخيا غير به مسار الأحداث‏..‏ ونحن نوشك أن ندخل في مواجهة‏..‏ لا أقول ندخل‏..‏ بل أقول ندفع دفعا إلي مواجهة مصيرية يمكن أن تنسف التاريخ والجغرافيا للمنطقة كلها‏.‏

فأين عقولكم وفيم انتظاركم ياإخوة

إنه ليس فنجان شاي عابر وثرثرة‏.‏

بل هي صيحة تحذير للكافة من عدو حقيقي له أطماع شرسة‏.‏

ولفت الأنظار إلي خطر جسيم سوف تنعكس نتائجه المدمرة علي كل دولة عربية‏..‏ وفي المدي الزمني الأبعد سوف يمس استقلال كل كيان عربي‏..‏ بل واقتصاد وثروات كل دولة عربية في قطر الدائرة‏..‏ وسوف يؤثر في لقمة عيش كل مواطن‏..‏ وسوف يجلب معه أطماعا جديدة تبحث عن أسواق وتطلعات مادية تبحث عن غزوات وعطش يبحث عن مصادر للمياه وجوع يتلصص علي مواطن الثروة‏.‏

وسوف يحرث هذا العدو الأرض من جديد ليصنع طبقة موالية له ويشتري ذمما ويبيع ذمما ويفسد الأرض بما لا يخطر علي بال‏..‏ وسوف تتسع دائرة تهديده لتطول الكل‏..‏ وسوف يصنع كل هذا وهو قادر عليه‏..‏

إن الصهيونية دمرت النسيج الثقافي الأمريكي بل والأوروبي‏..‏ وهي علي تدمير الدول العربية أقدر‏.‏

وانظروا إلي اثر الصهيونية في الإعلام والصحافة والسينما والإنترنت متي لعب الأطفال وأغاني الكباريهات‏.‏

وهي كالعادة تعمل في الخفاء وتستعمل أيدي الآخرين وعقولهم وتستأجر القتلة واللصوص وعصابات المافيا لتصل إلي أغراضها

وماذا يحدث للعالم إذا أنت سممت مجاري الماء وأفسدت الذمم والأذواق ولوثت الأفكار والمباديء‏.‏

ماذا يبقي‏..‏ ؟‏!!‏

هل كان يخطر علي بال أحد أن توجد في ألمانيا في يوم من الأيام أكثر من أربع محطات تليفزيون تجارية تذيع العملية الجنسية طوال الليل علي الشباب‏..‏ ألمانيا بلد الوقار وعاصمة الموسيقي السيمفونية ومهد أوبرات فاجنر وموزار وباخ وبيتهوفن‏..‏ ألمانيا عاصمة الفكر والفلسفة والفن‏.‏

وماجري لألمانيا جري علي تركيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا وفنلندا وإنجلترا وأمريكا‏.‏

وفي الدنمارك الكوكايين والهيروين يباع علي الأرصفة‏.‏

وفي بلجيكا دعارة الأطفال وخطف الأطفال‏..‏ والاتجار في الأطفال الآن مهنة رائجة لها زبون‏.‏

وفي أمريكا نوادي الشذوذ الجنسي ومافيا المخدرات هي موضة البهوات الشيك‏..‏ وفيها كنائس تزوج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة‏..‏ وفي أوروبا كنائس مثيلة‏.‏

من كان وراء هذه الشبكة الأخطبوطية للفساد والإفساد ؟‏!!‏

اقرأوا بروتوكولات حكماء صهيون تجدوا الأصول التلمودية لكل هذا الإفساد بهدف القضاء علي روسيا القيصرية وهدم العروش الأوروبية وإنهاء البابوية واستعمال الأمم والشعوب كحيوانات يركبها ويقودها الشعب المختار‏..‏ وبهدف إبادة الحضارة وتفكيك الأمم والشعوب وتخريب المجتمعات ومحو الأديان وإقامة مملكة داود ليكون دين موسي هو الدين الوحيد‏..‏ وليغدو ملك اليهود هو بابا العالم أجمع‏..‏ وفي سبيل ذلك تباح كل الجرائم وتستحل الحرمات ويفتي بقتل أي إنسان يقف في وجه هذا المخطط‏..‏ وتنفق الأموال الهائلة في تمويل هذه الشبكة العنكبوتية الهائلة التي تلتف حول جسد العالم كله‏.‏

وماذا بعد‏..‏ ؟‏!!‏

إن المعركة الكبري والاشتباك النهائي مع هؤلاء الشياطين سوف يكون في قلب العالم القديم‏..‏ في القدس وماحولها‏..‏ وسوف نكتوي بنار الابتلاء الختامي‏..‏

هل يقف العرب يتفرجون من أعلي التياترو وتخوض فلسطين الحرب وحدها

‏..‏ وهل..

وهل تحارب مصر وفلسطين وحيدتين

إن الدمار لن يستثني أحدا والشرر المتطاير سوف يحول المنطقة إلي أتون

هل تعطي مصر ظهرها للجحيم وتخلي مسئوليتها‏..‏ استحالة‏..‏ فالكل سوف يكتوي بالنار‏..‏ الداخلون فيها والهاربون منها‏..‏ لا مهرب‏..‏ ولا فرار

حروب الإنسان مع الشياطين قدر إلهي لا مفر منه‏.‏

وهذا شرفنا الوحيد‏..‏ فكيف يهرب الإنسان من شرفه؟

لا توجد كراسي ألواج ولا بنوار يحجزها الإخوة المسالمون للفرجة المأمونة

ولهواة الفروسية نقول هذا يومكم‏..‏ أرونا فروسيتكم‏.‏

ولهواة الصلح وتلفيق الحلول السلمية‏..‏ نقول لهم‏..‏ لن تكون هناك حلول سلمية‏..‏ انتهي الأمر‏..‏ افتحوا عيونكم علي الواقع الخطير الذي يدبر لكم بليل‏..‏

ان الكل يقف لكم بالمرصاد‏.‏

اقرأوا قرآنكم واستمعوا إلي مايقوله ربكم عن وعد الآخرة مخاطبا اليهود في سورة الإسراء

فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ‏(‏منتصرين أيام عمر بن الخطاب‏)‏ وليتبروا ماعلوا تتبيرا ‏(‏أي ليدمروا كل مارفعتم من بنيان‏)‏ الله يتكلم عن حرب قادمة ولا يتكلم عن مفاوضات وإنما عن صدام حتمي‏.‏

وعن الميقات الذي أسماه ربنا وعد الآخرة يقول ربنا في أواخر سورة الإسراء لليهود بعد عبور البحر‏..‏

وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ‏(104‏ ـ الإسراء‏)‏ وقد جاء ربنا بهم لفيفا بالفعل وجمعهم أشتاتا من كل الأمم في إسرائيل‏..‏ فنحن إذن في الميقات‏..‏ والصدام وشيك‏.‏

لقد قضي ربنا بهزيمتهم وانتهي الأمر‏.‏

فكيف نتخلف عن هذا الشرف العظيم‏.‏

وهل منا من يستطيع أن يسبق أجله أو يتخلف عنه‏..‏ إن الموت كتاب

ماأجمله من ختام

وسعداء حقا من يكون هذا ختامهم

ولا أتعجل قضاء ولا أدعو إلي منازلة

وإنما أهز الكراسي الوثيرة

وأقول‏..‏ أفيقوا ياإخوة‏..‏ اجتمعوا‏..‏ تشاوروا‏..‏ فكروا في الاحتمالات‏..‏ انظروا إلي المستقبل‏..‏ أنتم مسئولون ؟‏!!‏ أليس كذلك ؟‏.‏ وكلنا مسئول‏..‏ فنحن جميعا في قارب واحد تطوح به العواصف‏..‏

وهذا أوان الصحوة‏..‏

قفوا وقفة رجل واحد‏..‏

*****************

د. مصطفى محمود (27 ديسمبر 1921 – 31 أكتوبر 2009)

فيلسوف وطبيب وكاتب مصري. ألف 89 كتاباً منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة.

كان مصطفى محمود مقدّماً لأكثر من 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير.

ولد بمدينة شبين الكوم في محافظة المنوفية، واسمه بالكامل (مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ)، درس الطب وتخرج عام 1953 وتخصَّص في الأمراض الصدرية، ولكنه تفرغ للكتابة والبحث عام 1960. تزوج عام 1961 وانتهى الزواج بالطلاق عام 1973. رزق بولدين هما “أمل” و”أدهم”. تزوج ثانية عام 1983 من السيدة زينب حمدي وانتهى هذا الزواج أيضا بالطلاق عام 1987.

أنشأ عام 1979م مسجده في الجيزة المعروف بـاسم “مسجد مصطفى محمود”. ويتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود. وشكل قوافل للرحمة من ستة عشر طبيبًا، ويضم المسجد الجمعية الفلكية بمسجد محمود، ومتحفاً للجيولوجيا، يقوم عليه أساتذة متخصصون. ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية. أُطلق على كويكب اسم (296753) مصطفى محمود تكريما له.

له العديد من المؤلفات، ويعد من أروع كتبه وأعمقها (حوار مع صديقي الملحد)، (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، (التوراة)، (لغز الموت)، (لغز الحياة)، (الله والإنسان)، وغيرها من الكتب شديدة العمق في هذه المنطقة الشائكة..

يروى مصطفى محمود أنه عندما عرض على التلفزيون المصري مشروع برنامج العلم والإيمان، وافق المسئولين راصدين 30 جنيه للحلقة، وبذلك فشل المشروع منذ بدايته إلا أن أحد رجال الأعمال علم بالموضوع فأنتج البرنامج على نفقته الخاصة ليصبح من أشهر البرامج التلفزيونية وأوسعها انتشاراً على الإطلاق، ولا يزال الجميع يذكرونه سهرة الإثنين الساعة التاسعة ومقدمة الناى الحزينة في البرنامج وافتتاحية مصطفى محمود (أهلا بكم)!

كان صديقاً شخصياً للرئيس السادات ولم يحزن على أحد مثلما حزن على مصرعه يقول في ذلك “كيف لمسلمين أن يقتلوا رجلاً رد مظالم كثيرة وأتى بالنصر وساعد الجماعات الإسلامية ومع ذلك قتلوه بأيديهم.. وعندما عرض السادات الوزارة عليه رفض قائلاً: “أنا فشلت في إدارة أصغر مؤسسة وهي الأسرة.. فأنا مطلق.. فكيف بي أدير وزارة كاملة..!!؟؟ “. فرفض مصطفى محمود الوزارة كما سيفعل بعد ذلك جمال حمدان مفضلاً التفرغ للبحث العلمي..

تمركزت جهود مصطفى محمود حول توضيح خطر الصهيونية، ووظف لها – فضلا عن مقالاته – 9 كتب أصدرها خلال حقبة التسعينيات، تتضمن أطروحاته الفلسفية تجاه جذور الخطر وحاضره ومآلاته. ولعل هذا المجهود الفكري من جانب مصطفى محمود هو ما دفع أسرته وعددا من متتبعي سيرته لاتهام إسرائيل بالوقوف وراء منع صاحب “العلم والإيمان” من استكمال برنامجه الشهير بالتلفزيون المصري،  فضلا عن حظر مقالاته في الصحف، ففي كتابه “إسرائيل البداية والنهاية”، يقول مصطفى محمود إن “إسرائيل تتصرف وكأنها تتعامل مع أصفار، وتتوسع وكأنها تمرح في فراغ، وهذا الغياب للموقف العربي سوف تكون له عواقب وخيمة”. وأمام هذا التهاون أو الهوان العربي كان ضروريا أن يحذر المفكر المصري من مآلات السلام الذي يسعى إليه الكيان الصهيوني، ففي كتابه “على حافة الانتحار” رأى أن إسرائيل ليست لديها نية جادة للسلام بقدر ما هي راغبة في تطويع وقبول من الطرف العربي لسلام من طرف واحد.

ويستدل محمود على رأيه بأن تل أبيب بقياداتها السياسية وزعاماتها الدينية تزرع المزيد من الكراهية ضد العرب، كما أن آلتها العسكرية تتوسع باستمرار على حساب شعب فلسطين، فضلا عن أنها ما زالت تطور أسلحتها الذرية والبيولوجية والكيميائية وتضعها على حدود مصر ولا تدخر جهدا في المساهمة في تدمير الاقتصاد المصري. لذلك طالب الكاتب بأن تعي الدول العربية ما يُحاك لها من قبل الاستيطان الصهيوني، وأن تحذر في تعاملها مع السلام الذي يُطلب منها اللحاق به، وهو ما يحتاج الاستقلال العسكري والاقتصادي. ويزيد مصطفى محمود من التحذير في كتابه “إسرائيل النازية ولغة المحرقة”، قائلا “انظروا إليهم كيف يتفاوضون مع العرب ويحسِبون نصيبهم من الأرض بالمتر والسنتيمتر ونصيبهم من الماء فوق الأرض وتحت الأرض وفي جوف الأرض، ويريدون الحفر في الماضي والحفر في الحاضر والحفر في دماغنا ولا نهاية لمطالبهم”. ولخص صاحب العلم والإيمان رؤيته للسلام بين العرب مع الكيان الصهيوني، بأنه عقد إذعان أكثر منه اتفاقا وتراضيا، وبأنه طريق مرصوف بالجحيم.

وعبر سلسلة الكتب التي تناولت الخطر الإسرائيلي، تطرّق مصطفى محمود إلى كثير من الخطط الصهيونية، ومنها تشويه الإسلام عبر استخدام ودعم من سماهم إسلاميين متطرفين لتدمير الحضارة الإسلامية من الداخل، داعيا في ذلك إلى ضرورة أن يتعامل المسلمون مع المعطيات الجديدة للعصر ونقد الموروث القديم. وأضاف أن إسرائيل تخطط للتحكم في منابع النيل عن طريق السيطرة على منطقة البحيرات الكبرى، وإثارة الحروب والفتن الطائفية والعنصرية بين نصارى الجنوب ومسلمي الشمال في السودان، المنكوب بالتآمر من كل بلاد الجوار الأفريقي.بالإضافة لعلاقات إسرائيل بالحبشة وإريتريا وتسليحها للإثنين وإمدادهما بالمعدات العسكرية أمور لها مقابل، وبوابة البحر الأحمر ودول القرن الأفريقي وجزر البحر الأحمر، كلها محطات إستراتيجية تقع تحت رقابة وأطماع العين الإسرائيلية طول الوقت”.

أصيب بجلطة، في عام 2003 وأصبح يعيش منعزلاً وحيداً. وقد برع الدكتور مصطفى محمود في فنون عديدة منها الفكر والأدب، والفلسفة والتصوف، وأحياناً ما تثير أفكاره ومقالاته جدلاً واسعاً عبر الصحف ووسائل الإعلام. قال عنه الشاعر الراحل كامل الشناوي ”إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة، كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على كل شيء، وعندما خاب ظنه مع العلم أخذ يبحث في الأديان بدءا بالديانات السماوية وانتهاء بالأديان الأرضية ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم“.

من ناحية الجانب الفني والأدبي، كتب الدكتور الراحل مجموعة من الأشكال الأدبية ما بين الرواية والمسرح والقصص القصيرة وتجسدت في أعمال مثل شلة الأنس والعنكبوت والمستحيل وغيرها. تعد “شلة الأنس” هي مجموعة قصصية صدرت عام 1962، تبرز شخصيات واقعية شعبية، تجتمع كل يوم وقت العصاري، يدخنون المعسل والجوزة ويتحدثون في الفن والاختراعات، وتحولت الرواية إلى فيلم سينمائي يحمل نفس الاسم في عام 1976. ولعب بطولة الفيلم كلا من نور الشريف وعزت العلايلي ونيللي وهدى سلطان، وآخرين، وبعدها كتاب “العنكبوت” وهي من أشهر رواياته وصدرت عام 1965 وهي رواية فلسفية لا تخلوا من لمسة خيال علمي وتناقش فكرة مصير الروح وارتباطها بالإنسان وماذا يحدث بعد الموت، وثم تقديم الرواية في مسلسل عام 1973 ولعب بطولته كلا من عزت العلايلي ومحمود المليجي، ومديحة كامل وآخرين.

وطرح مصطفى محمود رواية “المستحيل” عام 1960 وكانت تحكي عن مهندس شاب يكتشف فجأة أن حياته مزيفة وكل شيء بها مفروض عليه، وتتوالى الأحداث ثم تحولت لفيلم سينمائي بنفس الاسم عام 1965. ولعب بطولة فيلم “المستحيل” كلا من كمال الشناوي وحسين كمال، ونادية لطفي ووضع لها السيناريو يوسف فرنسيس، وشارك في الكتابة مصطفى محمود. وفي عام 1965 كتب فيلم “العنب المر” وكان من بطولة أحمد مظهر ولبنى عبد العزيز المأخوذ من إحدى قصصه الشهيرة، وبعدها عام 1968 كتب الحوار الخاص بفيلم “نار الحب” الذي لعبت بطولته سعاد حسني وحسن يوسف.

حازت روايته “رجل تحت الصفر” على جائزة الدولة لعام 1970 وبتاريخ الاثنين 7  يوليو 2008 صد عدد خاص من (الجزيرة الثقافية) وكان يتحدث من الغلاف إلى الغلاف عن مصطفى محمود، ضم الملف كتابات لثلاثين مثقفاً عربياً من محبي مصطفى محمود، كما ضم العدد الخاص، صوراً خاصة وكلمة بخط يد مصطفى محمود وأخرى بخط ابنته أمل، وقد كتبت ابنتهُ فيه كلمات رقيقة صورته على حقيقتهِ: “(قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة بين ميلاده وموته) تلك الكلمة تمثل مبدأه ومشواره الإنساني، والمقصود بالأمانة هنا، ليس المجد الأدبي والعلمي والمادي بل العطاء الإنساني لوجه الله تعالى وكل ما يفيد البشر.. أي العطاء والخير والمساندة للغير فهو إنسان شديد التسامح حتى لمن أساء إليهِ قولاً وفعلاً..بسيط جداً، يحمل قلب طفل يحلم بالعدالة الاجتماعية وإعلاء كلمة الأمة الإسلامية..أطال الله عمرك يا أبي ومتعك بالصحة حتى ترى حلمك يتحقق وهو وحدة الأمة العربية والإسلامية وإعلاء كلمتها لتصبح كما قال الحق في كتابه العزيز {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}..” وأنهت الكلمات بـوصف نفسها: ” إبنته ومرافقته الوحيدة “.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

يسعدنا مشاركاتك

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »