مساحة للاختلاف

الدكتور أحمد عبد الدايم يكتب: انكباب على الدراسة

ذكرت من قبل أسبابا عديدة كانت تدفعنى للانكباب على الدراسة فى قسم التاريخ، وأولها أننى خسرت خيارى الأول فى دخول كلية السياسة والاقتصاد بما جنته يدى.

وثانيهما، إننى اخترت تخصص التاريخ برغبتى، وكان اختيارى الوحيد فى رغبات الكلية.

ولهذا توفر لى دافعان رئيسيان للانطلاق داخل القسم.

لكن المشكلة التى كانت تؤرقنى:

من هو هذا الشخص الذى يمكنه أن يتعرف على إمكانياتنا ويوظفها.

بالتقدم فى الدراسة كنت أشعر بأننى أحصل على مادة معرفية تاريخية، لكن لم يكن لدى أدواتى الخاصة التى يجب أن امتلكها لأشبع رغبتي.

وحين استشعرت أنها تتمثل فى مادة منهج البحث التاريخى، اكتشفت بأن الدكتور الذى يدرسها لنا كان يقرأ من الكتاب ولا يشرح لنا شيئا مما قرأه.

كنت أحاول ان استغنى عن هذا الاستاذ واكتفى بمذكرته فقط، لكنها كانت تقودك لتنفر منها، أكثر مما تجذبك إليها.

وكانت هناك أسئلة وجب على دارس التاريخ أن يسألها لنفسه قبل أن يكتبها.

لكن الأستاذ لا يسمع لأحد، ولا يريد من أحد أن يقاطعه.

لم أكن أنا الوحيد الذى أشعر بذلك، بل تقابل رباعتنا أنا وعادل عبدالرحيم وأحمد ركابى وجمال الزمقان لمحاولة إيجاد حل لتلك المعضلة فى مكتبة الكلية.

وجاء التعارف مرتبطا بأننا ذهبنا لأمينة المكتبة، زوجة أستاذنا فى القسم د. كمال محمد حسن، نبحث جميعنا على كتاب د. حسن عثمان حول منهج البحث التاريخى، لكون مذكرة الدكتور ما هى إلا عبارة عن تلخيص للكتاب.

تعجبت السيدة حول تكرار الطلب فى أقل من عشرة دقائق حول ذات الكتاب.

كانت هى السبب فى تعارفنا، حيث ذكرت بأن أحدهم جلس بالكتاب فى أبعد ركن فى المكتبة وتبعه زميله الآخر، ثم جئنا آخر اثنين، فالتحقنا بهما، وكان التعارف بيننا.

بادر أحدنا وعرف نفسه:

أنا عادل عبدالرحيم من قرية الكرنك أبوتشت قنا، ثم جمال الزمقان من الزوايدة نقادة قنا، ثم أحمد ركابى من الكاجوج كوم أمبو أسوان، فقلت أنا أحمد عبد الدايم أرمنت قنا.

ولما كان عادل هو أسبقنا إلى الكتاب، فتعرف على مقدمته سريعا فعرضها لنا بسهولة ويسر.

شعرت أن هذا الفتى مميز وسيكون لى لقاءات تالية معه.

تدخل ركابى والزمقان فذكر إشكاليته مع المادة وصاحبها، فشعرت بأنهما يتحدثان بلسان حالى.

جمعت بنا المكتبة من أول يوم، ولم ننفصل عنها حتى آخر يوم لنا فى الكلية، كل بجهده وعرقه وكده.

كانوا شبابًا جياعًا للمعرفة، وكنا نستحق أساتذة أفضل مما كان موجودا.

أصبحنا فلاسفة الدفعة بلا منازع.

كان زملاؤنا يخشوننا ويقولون حضر بتوع المكتبة والكتب.

كانوا يقرءون فى كل شيء، ويناقشون فى كل شيء ويختلفون ويتفقون.

ارتبطنا سويا، وتلاقينا فكريا وأخلاقيا وإنسانيا وصرنا صحبة تحولقت حول الكتب.

وكانت مكتبة دار المعارف بقنا نقطة تلاقينا كثيرا لمشاهدة جديد الكتب وشرائها مما وفرناه من مصروفنا.

كان لدينا قرار بأن يقوم كل واحد منا يكون مكتبة خاصة له وعلى مدار السنوات الأربع استطعنا أن نجمع الكثير على قدر امكانياتنا وعلى قدر ما هو متاح فى قنا من مكتبات.

فلم يكن لدينا سبيل إلا دار المعارف فقط فضلا عن اثنين بائعى الكتب المتجولين أمام مسجد ناصر وقرب بنزايون وفندق مكة وغالبية كتبهم دينية وفى التصوف والمدائح النبوية.

كنا محرومين فى قنا من المكتبات الكبيرة أو حتى الصغيرة.

وكانت وزارة الثقافة ودار الكتب غائبة تماما عنا وعن إتاحة الكتب لنا لكى نشتري منها ما نريد.

وأعتقد أن المحافظات المصرية لو توفر لها ما للقاهرة من مكتبات وفروع لبيع الكتب وعرضها، لتفوق بنيها على الدنيا كلها.

كنا مقبلين بنهم على المعرفة، لكن ليس لنا حواضن ثقافية تلبى رغباتنا، وتوفر لنا الكتب والمصادر التى نريدها.

كان أحمد ركابى أكثرنا هدوءا وروية ويأخذ وقته الكافى مع الكتب، يحاول أن يفهم ما وراء الكتاب، فنقل لنا تجربته فى القراءة.

وكان عادل يحب السير والأبطال، ولا يحدد أبطاله فى الحكام فقط، بل أحيانا يأخذك لأبطال عاديين لا نراهم، فقدم زاوية للنظر قبل أن نتعرف عليها من خلال النظريات.

كنت أنا أنقل لهم محاولاتى فى فهم دوافع الحدث وأسبابه، وكيف يمكننا أن نكتب حدثا ما، وكان الزمقان ياتى لنا بجديد الكتب.

وكانت عمارتهم فى قنا صالونا ثقافيا لنا نحن الأربع، حيث كنا أنا وعادل وركابى نسكن المدينة الجامعية لكن الزمقان يعيش فى بيتهم الذى بنوه اخوته فى قنا، لكنهم لا بعيشون فيه.

فبعض اخوة الزمقان ظل يعيش فى الزوايدة نقادة، وآخرين يعملون فى الخارج.

لهذا كان بيت الزمقان متنفسا مهما وحيويا بالنسبة لنا.

كنا أحيانا نذهب للسينما القديمة، ثم نكمل سهرتنا عند الزمقان.

كنا نتشوق الطعام المنزلى فنذهب للزمقان، ونقضى ليلتتا بصحبته، وكان ينضم لنا فيها أحيانا على عبدالعال، ابن خالى وزميلى فى الدفعة، وحسن الحجازى.

وكان هؤلاء بمثابة اخوة واصدقاء، لم نفترق أبدا.

هونوا علينا الأيام، وخففوا من وطأة المشكلات، وهم الآن قامات كبيرة فى اماكنهم.

عاش معنا أحمد ركابى مهندما، لم تكن لدية أطقم كثيرة مثلنا للخروج، لكنه كان يظهر وكأنه يلبس طقما كل يوم.

كانت حجرته فى المدينة قريبة منى، وأعرف حاله، فسألته مرة لماذا تبدو هكذا مهندما ومنظما فى هندامك وكأنك ابن عمدة وأنت ليس لديك الكثير من الملابس؟

كان يجيب بأنه كان يهتم بغسيل ملابسه وكيها بمجرد استعمالها، فتبدو وكأنها فى حالة جديدة ومتنوعة.

ذهبت لركابى فى زيارة يوما فى منزلهم فى الكاجوج بكوم أمبو، فرأيت نسيبه ساكنا عندهم فى المنزل، فسألته عن ذلك، فأجاب بأن هذا الأمر من عادات بلدهم وتقاليدها، يظل العريس فى بيت العروس بعد الدخلة، حتى يتمكن من تجهيز منزله تيسيرا للزواج ودفعة للشباب لعدم الخوف من التكاليف.

فيظل العريس فى بيت أهلها حتى لو طال الأمر لخمس أو سبع سنوات.

فقلت له هنيئا لك يا عم ضمنت الزواج ببلاش وبراحتك.

لكن لكونه كان يحب فتاة من خارج هذا العالم، فكان يجيب بأنه لن يدخل فى هذا النظام أبدا.

سبحان الله حكمت عليه الأقدار بأن يدخل فيه، وألا يرتبط بمن يحبها!.

لقد عشت مع عادل عبدالرحيم أجمل أيام فى المدينة الجامعية.

كان والده بمثابة والد لي، وكنت أحيانا أذاكر فى حجرته وننام سويا على سرير واحد.

كنا نعرف كل صغيرة وكبيرة عن بعضنا البعض.

فقد كان شهما وكريما وصعيديا كما ينبغى له أن يكون.

ظل يحب فتاة فى الدفعة لمدة أربع سنوات، ولم يفاتحها بحبه أبدا.

وكثيرا ما نصحته بأن يفاتحها

كان يذهب مقررا مصارحتها لكنه حينما يراها يهرب منه الكلام، وبعد كل جولة من هذه الجولات، كان يقضى ليله يستمع لأغانى ميادة الحناوى، ويعود لتكرار عزمه، ولا يحدث جديد إلا تكرار لفشله.

وحين أقسم يوما على مفاتحتها وجد كل أفراد الدفعة يباركون لها بخطبتها من ابن عمها.

عاش عادل بعدها أصعب أيام حياته، ولكني لم أتركه فيها مع نفسه ينازل الحزن والحزن ينازله.

اعتقد أن أى فرد من الفلاسفة الأربعة لهو قادر على أن يبز منافسيه فى الجامعة إذا أتيحت له فرصة فيها.

حكى لى يوما عن صديق مشترك كان يشعر عادل بأنه صديق لأمن الدولة، بأنه كلما كان يأتى إليه فى الحجرة يفتش فى أوراقه.

وكان يشفق عليه من هذا التكرار، فأراحه يوما بأن أخبره بأنه لسه قادم من السينما، وكان يشكون فى التزام عادل الدينى، فلاحقوه من خلال هذا الصديق المشترك، بعدها انصرف عنه ولم يعد يذهب إليه.

سبحان الله لم يكن لعادل أى اتجاه سياسى، فما الذى جعل الأمن يلاحقه؟

لم يكن يخبرنا بذلك، ولم تكن أفعاله تستحق الملاحقة.

كان رومانسيا حالما ومثقفا فزا، لكنه لم يلق الاهتمام الكافى لاستكمال دراساته العليا، نظرا لانشغاله بالأرض وزراعتها.

فكان هو الإبن الأكبر لوالده وكان لديهم أراض كثيرة تحتاج لرعاية.

وأعتقد أن عادل عبدالرحيم وأحمد ركابى وجمال الزمقان لو واصلا الدراسات العليا لكان لهم شأن آخر فى الجامعات المصرية.

أما على عبدالعال فلم يكن يحب القراءة كثيرا، ولا يحب المذاكرة أبدا، لكنه إذا قرأ يريك العجب العجاب.

فكان لديه قدرة غير عادية على الحفظ، ويمكنه حفظ الصفحة من أول مرة، وبمجرد أن يقرأها.

كنا نسكن فى المدينة فى غرفة واحدة فى إحدى السنوات، وكان صديقنا عبدالفتاح أبو كساب متفوق جدا فى دراسته تربية لغة عربية، لكنه كان يجهد نفسه كثيرا فى الحفظ.

تآمرنا عليه يوما أنا وعلى، فقال لى على ان طريقة عبدالفتاح فى المذاكرة تتعبه والساعات الطويلة التى يقضيها تستفزه، لأنه يقضى أكثر أوقاته في النوم، وعبدالفتاح يسهر كثيرا.

فذات يوم اتفق معى على عبدالعال على أن يأخذ الكتاب الذى يقرأ فيه عبدالفتاح ليعرف مشكلته، فقرأ أربع صفحات فحفظها من أول مرة، وعرف بأن المشكلة فى طريقة حفظ عبدالفتاح وليس فى الكتاب.

وهنا تدخلت حينما بدأ عبدالفتاح المذاكرة فطلبت منه إعطاء الكتاب لعلى لنختبره، إن كان يفهم أم لا؟ فقضى على دقيقتين بعدها وكأنه لم ير الكتاب من قبل

فسألته يعنى: انت فاهم اللى انت بتقراه عشان بتهز فى دماغك؟

فأجابنى خد الكتاب واسألنى كمان، فقلت له احنا نسيب صاحب الكتاب يحكم بنفسه، لأن فى تخصصه لغة عربية وأنا تاريخ، فأمسك عبدالفتاح بالكتاب وسأله، فإذا بعلى يجيبه وكأنه يقرأ فى الكتاب دون أن ينسى كلمه أو يخطأ فى سطر.

هنا أدرك عبدالفتاح مشكلته، فصاح قائلا يا واكل أبوك أنا لى أسبوع أعيد وأزيد وانت من مرة واحدة، لا خلاص أنا سأحترمك بعد ذلك ولن أشكك فى قدراتك.

كان على موهوبا فى هذه للناحية لكنه لا يستطيع أن يجلس فوق ترابيزة المذاكرة أكثر من ساعة.

وأعتقد أن اخيه محمود عبدالعال صديقى وابن خالى العزيز يفوقه أيضا.

بحيث تعطيه أى رقم صغر أم كبر، فيحفظه بمجرد انتهاءك منه.

فسبحان الله لو استغل على موهبته لعلا وتفوق على الجميع، لكنه مهتم بأمور أخرى حرفية تجلب له الأموال، فركز اهتمامه بها وتفوق فيها.

وكان الأصدقاء جابر عبدالموجود وصلاح سليم وجمال الاسناوى وبهاء الدشناوى وعبدالناصر مرعى ومحمود خضرى وعبدالسلام الأصفونى ومؤمن الهوارى والمرحوم احمد الجمل يمثلون مجموعة أخرى بعيدة عن الكتب والدراسة.

فكان هؤلاء أشقى أفراد الدفعة، منهم من جمعتنا هواية كرة القدم، ومنهم من جمعتنا الصحبة الطيبة وخفة الدم والظرف المنقطع النظير.

وكان منهم ما تتوفر لديه شبكة معلومات متكاملة كنا نحتاجها.

كان هؤلاء يمثلون شقاوة الشباب ومقالبهم والذكاء الحاد.

وهذا لا يعنى أنه لم تكن لنا صداقة من فتيات الدفعة.

فقد كانت الرشيدية أبوالفضل تنافسنى فى المركز الأول، فقد كانت هى الأولى على الدفعة فى السنة الثانية، وكنت أنا الثانى.

وحصلت أنا على المركز الأول فى السنة الثالثة، وحصلت هى على المركز الثانى، ثم جابر عبدالموجود.

كانت فتاة فى غاية الأدب والجمال والشطارة، وكان والدها الشيخ أبوالفضل الدندراوى أحد الشخصيات المشهورة بالمصالحات بين الناس.

ولا ننسى منى نورالدين إحدى فاتنات الدفعة التى يتنافس على ودها كل الشباب، فكانت عيونها تجمع كل خضرة الدنيا ومياهها.

ومنهم الجميلة بكره وليلى وسناء واميمة وسلوى وهدى وسعيدة وغيرهن.

كن بمثابة اخوات لنا، وكلهن تزوجن بعد الكلية مباشرة أو خطبت خلال فترة الكلية.

ويعملن بالتدريس وغير ذلك من الوظائف المبرزة.

لا زلت أتواصل مع البعض، أما الغالبية فانقطعت الصلات أمثال محيى وأشرف الاسناوى ومبارك وحمدى البحر الأحمر.

وأتمنى من الله أن يمن الله عليهم بالصحة والعافية، وأن يعطيهم من فضله أوسع العطاء.

صحيح أننا لم نكمل فى السلك الجامعى ونصبح أعضاء هيئة تدريس إلا أنا واخى وصديقى د.صلاح سليم، وعبدالناصر مرعى الذى حصل على دكتوراه فى التاريخ الإسلامى لكنه لم يعين فى الجامعة، إلا أن بعض أفراد دفعتنا كانوا لا يقلون عنا اى شيء، ولو أتيحت لهم الفرصة لتفوقوا وأضافوا للمكتبة العربية الكثير.

فلهم منى كل التحية والاحترام والتقدير.

اظهر المزيد

الدكتور أحمد عبد الدايم

أ.د. أحمد عبدالدايم محمد حسين.. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الدراسات الافريقية العليا جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

يسعدنا مشاركاتك

زر الذهاب إلى الأعلى
« Browse the site in your preferred language »